السبت، 18 سبتمبر 2021

( بقلم ربيع دهام

 (رحلتي نحو المارد)


وأخيراً وجدتُهُ. كان في الضيعة المجاورة الواقعة على سفح الجبل الكبير. 

في منطقة إسمها مرج الزهور. بثيابه التي تشبه ثياب الفلاحين، الملطخة بنبضِ التراب، رأيته يلتحف ظل سنديانة، ويتربع على الأرض مثل البوذيين.

اقتربتُ منه. تفحّصت ملامح وجهه. هادىءٌ مثل الأرضِ. متشقق كما ترابها.

حفرتِ السنواتُ على جبينه سواقي العمر. 

ملامحه بصدق فجر.  نظراته بعمق بحر.

 لطالما بحثتُ عنه مِن دون جدوى. 

كانوا يقولون لي: " هو ساحر. حكيم الحكماء. لديه الدواء الشافي لكل داء.  

إن أردتَ الوصول إليه، عليك أن ترمي كل أثقال الدنيا جانباً وتمشي بخفةِ ريحٍ. 

لو بحثتَ عنه بعينيك أضعتَه. ولو فتَّشتَ ثنايا روحك، وجدته. 

عليك الوصول إليه بقلبك قبل قدميك".

طبعاً لم أفعل كما قالوا. فكلامهم اللامنطقي هذا لم يقنعني. 

كيف أجده بروحي قبل عيني؟ أو أعرف مكانه بقلبي قبل قدمي؟ 

سألت الكثيرين عنه. أين ومتى آخر مرةٍ شاهدوه. 

سرتُ بالقدمين لا بالقلب، وبحثتُ بالعينينِ لا بالروح، حتى وصلت إليه.

يا لسخافة هؤلاء المتفلسفين البلهاء.

اقتربتُ منه. حدّقتُ في الرجل الذي لطالما كان حديث الألسنةِ والمجالس.

وبفضول البراعم سألته : " يقولون أن لديك الدواء الشافي لكل داء. أهذا صحيح؟".

تنهَّد قليلاً، ومن دون أن ينظر في عيوني، وبصوتٍ حمل في ذبذباته صهيل الأزمنة وحكمة العصور، أجابني: 

" إنّ أول داء تحمله إلى هنا، ولا بّدّ أن تُشفى منه هو كلمة "يقولون". 

أمحِها عن سبّورةِ حياتك وإلا ستكون السبّورة نعش حزنك وأنّاتك".

 تساءلتُ في نفسي مستنكراً : " أهو ساحرٌ أم فيلسوف؟".

لم يعجبني جوابه كثيراً. فأنا أريده أن يحقق لي أمنياتي لا أن يتفلسف عليَّ. 

ولهذا أتيت أبحث عنه.

سألته مجدداً : " لقد سمعتُ أنه باستطاعتك تحقيق أماني كل إنسان. 

وأنا لي أمنيات كثيرة أريد تحقيقها".

قلتُ هذا متوقعاً  أن يسألني : " وما هي أمنياتك؟".

لكنه أبداً لم يفعل.

بل بعينيه اللتين ترفرفان من مقلتيها الحروف، حدّق بي وسألني:  

" أتحسبني ذاك الساحر الدجال وأنا لستُ إلا الدال والمرسال؟

 وما أنا بالشافي المنتظَر، وما أنا الجواب لكل سؤال؟" .

ثم رفع سبابته نحو قمة الجبل الكبير وقال :

 " أنظر لهذا الجبل الكبير".

نظرتُ.

فأكمل: 

" هناك في أعلى القمة تلك ، ستجد بالتأكيد مبتغاك. إعتليها، وستلاقي الدواء الشافي لكل داء. عليها يوجد مصباحٌ صغير. أفركه جيداً. إفتحه. وسيخرج منه المارد الساحر. وسيقول لك المارد (شبيك لبيك أنا عبدك بين يديك).

وسيحقق لك كل أمنياتك".

" مثل مصباح علاء الدين؟"، سألته.

أومأ برأسه موافقاً : " نعم. مثل مصباح علاء الدين".

ودعتهمن دون كلام. اقتنيتُ بعضاً من الزاد والماء. حملتُ طموحى وآمالي وفضولي، وإلى تلك القمة بدأت مسيري.

وقعتُ وأكملتُ.  تعبتُ وصبرتُ.  جعتُ ومشيتُ. 

نهش العطش خلاي جسدي ولساني.

 دستُ على عطشي وسرتُ.

مزّق الشوك أصابع يدي. 

كويتُ جرحي بدمي وصعدتُ.

أطفأ الخوفُ نارَ شغفي. 

بثقاب الإرادة عدتُ وأشعلتُه. 

صاح جسدي : " أنا متعبٌ"، 

ردّت روحي : "الأمر لي". 

أكملتُ تسلقي.

وبعد جهدٍ جهيدِ وصلتُ. 

مهشّم الأضلع. مقشّب الشفتين. زائغ العينين. 

بالكاد يستطيع صدري التقاط أنفاسه.

متعبٌ، جلستُ أستريح على قمة الجبل. وكأن الجبل كله كان يجلس عليّ.

 وبعد أن عاد نعيمُ النظر إلى مقلتيّ، رأيت ذاك المشهد الخلاب.

يا له من منظرٍ جميل. 

وبعد أن عادت إلى عقلي الذاكرة، عاد إلى أذهاني كلام الحكيم عن المصباح.

وقفتُ وأخذتُ أبحث عنه. 

 نقّبتُ عن المصباح في كل مكان ولم أجده. 

درتُ أرجاء القمة ولم أجده.

ولما أيقنتُ أنه ليس هناك، حملتُ حقدي وغضبي وكرهي لذاك الرجل الحكيم في أسفل الجبل، وعدتُ.

عدتُ لأواجهه. عدتُ لأوبّخه. عدتُ لأكشف للناس زيفه. لأميط اللثام عن كذبه وريائه. لأنثر حقيقته على الرؤوس كالأمطار.

حقيقة أنه رجل مخادع وكاذب ومنافق. لا حكيماً ولا عليماً ولا من يحزنون.

دنوتُ حتى وصلتُ إليه. 

رأيته. 

مازال هناك يلتحف ظل السنديانة.

اقتربتُ منه. رفعت سبابتي بوجهه وصحتُ : " أيها المحتالُ قد كُشِف أمرك. 

أين السحر؟ أين المصباح؟ أين المارد الذي يحقق أمنياتي؟ لقد ...."

قهقهاته العالية قطعت سيل حديثي . 

صوّب نظراته في عيوني حتى كادت تقدحها. وبحكمة الحكماء قال:

" إسمع يا بُني. لقد أتيتَ إليّ غاضباً وخائباً، وأنا أتفهّم ذلك. 

لكن أرجو أن تسمع ما سأقوله لك جيداً. 

في صعودك لتلك القمة، تحديتَ تعبكَ وضعفك وترددك. تحديتَ نفسك القديمة. ومن يتحدى نفسه القديمة يفرّخ لنفسه نفساً جديدة. 

إنّ من يملك إرادة مثل إرادتك، وصبراً مثل صبركَ، لم يكن بحاجة أبداً إلى مصباح علاء الدين. 

لا. ولم يكن يحتاج للقمقم. ولا إلى مارد خرافي يحقق له أمنياته.

بصعودك إلى القمة، ومجابهتك للصعاب، وتحملك للعطش والجوع والشقاء، كنتَ أنتَ اليد الذي نزعت عنك أغلال القمقم، 

وكنتَ أنت المارد الذي حقق أمنياتك.

والسحر يا بُنى هنا في قلبك، فلماذا تسأل عن السحر هناك؟".

وبلحظة صمتٍ لن أنساها، وقف الرجل الحكيم ، اقترب مني، 

وضع يده اليمنى على كتفي، وهمس بصوتٍ مثل صوتِ الأرضِ: 

" قممُ الجبالِ إمتحانُ الرجالِ".

ابتسم. ودّعني. وأدار ظهره ومشى. 

مشى لا أعرف إلى أين. 

لكن ما أعرفه أني، بلقائي بهذا الرجل، قد تغيّرت كل حياتي. 

 حقاً هو رجلٌ ساحر.


( بقلم ربيع دهام)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خسرت نفسك

 خسرت نفسك متى خسرت نفسك ضيعت يومك وأمسك محوت ذكراك وإسمك لِتباع في أبخس صفقة متى سرت بهذا المضمار أين جرفك وأخذك التيار ألقيت الطهر في سعير...