الجمعة، 8 أكتوبر 2021

الأديب حسام الدين أحمد

 💛 قصة ماسة💛

قصة طويلة

قراءة ممتعة ... 


لحظات صعبة حين تكون في خط المواجهة مع الأَقدار لإتخاذ قرارك ... إما أَن تبقى مع من تُحب أَو تفارقه.


تلك اللحظات الصعبة التي عاشتها ماسة، وهي فتاة جميلة ذات مشاعر راقية، طيبة القلب، مبتسمة في كل أَحوالها، ذات إطلالة كالقمر في حسنه، رغم الصعوبات التي واجهتها وستواجهها ماسة خلال حياتها المليئة بالمشاعر والرومانسية.


أكثر قصص الحب تبدأ إثر لقاء عفوي أَو لقاء على موعد أَو الإعجاب المتبادل للحظات، لتتسارع الأحداث فيها؛ لتُوقد شرارة الحب وتجذب القلوب، لكن حب ماسة نادر في حدوثه ...


نعم .. فقد حدث ذلك في الأَيام الأُولى من ولادتها، وكذلك ولادة مهند، حين ناما جنباً لجنب وهما في المهد كأنهما توأم، وقد توهجت حولهما مشاعر الحب الصادق محاطة بحدائق الورود، فقصتها تختلف عن قصة قيس وليلى، وعنتر وعبلة، وروميو وجوليت التي ستقرأها ماسة لاحقاً.


شَعَرَ مهند بنفس تلك المشاعر التي أَرسلتها ماسة، وهما في أَول لقاء ... أَن لا يتفرقا أَبداً، وعقدوا هذا الاتفاق بالنظرات المتبادلة، وحركات أَيديهما البريئة، وقد وَقَعَ على هذا العهد والميثاق شهودٌ كُثر، أَصبحوا بعد مرور الزمن كلهم شهود زور، أَبدلوا شهادتهم ونقضوا عهدهم.


بدأَت ماسة بتسجيل قصتها ضمن قصص الحب العالمية التي اتصفت بقوة المشاعر والإحاسيس والرومانسية.


أَصبحت ماسة فتاة جذابة، وكذا قابلها مهند بالوسامة وكأنَّهما خُلِقا لبعضهما، وبعد أن كانا لا يفترقا وهما في المهد ... أَصبح لقاءهما في العام مرتين أو ثلاثة عند اجتماع الأهل للتسامر وسماع الأخبار ... إلا أن لقاء ماسة ومهند مختلف ... إنه لقاء الأحباب، ولقاء القلوب والمشاعر والنظرات والابتسامات واللعب البريء للصبية الذين شدتهم الأقدار، وجمعت مشاعرهم وأَحاسيسهم الصادقة، وكانوا الصبية يلعبون بألعاب خلطوها بالكذب أَو العنف أَو الخديعة ... إلا أن ماسة ومهند يلعبان بالمشاعر، ونظرات الحياء والإعجاب والحب.


حب ماسة ومهند كان حباً من نوع مختلف ... إنه حُب القلوب البيضاء النقية ... حُب يملك المشاعر والأحاسيس ... حُب النظرات والهمسات، كان يكفيهما النظرات لإرسال الأَشواق والأماني، وكأنهما يبنيان هذا الحُب بتأني وطهارة، فقد تفننا في إرسال رسائل الغرام دون كلام، وهذا ما أحس به مهند حين ركبَ في السيارة، وخرجوا يوماً للتنزه، وجلست ماسة خلفه، فكان يرسل لها طيور المحبة، ويلحن لها كلامات العشق، وماسة تجيبه بقلبها الذي يرتجف لمسك يده التي تنظر له وقد مَده باتجاهها، وهو يتمنى لمساتها الحريرية، وهي تتمنى لمس شعر يده التي لازالت تهواه بجنون.


ولازالت ماسة تذكر تلك اللعبة التي كانوا يلعبونها، وهي لعبة "الغُميضة" وقد أخفت ماسة نفسها خلف الباب وهي تنادي:


هيا : أي الآن فتشوا عني.


مهند: تُرى أَين هي؟


ماسة: يا ليته يجدني ... وهي تناديه بهمسات الحب ... يا حبيبي أَنا خلف الباب ... إنه قلبي يحدثك .. ألا تسمع؟


مهند : أَنتِ فوق السطح ... ولا يجدُها.


مهند : أَنتِ تحت السرير ... ولا يجدُها.


وهنا سحبه قلبه باتجاه الباب ... فأحسَّ أَن قلبه هناك ...   يناديه ... أَنا ماسة.


مهند : وجدتُكِ ... الآن يا ماسة خسرتي.


ماسة : لا يا مهند لم أَخسر ... بل فزتُ بك؛ لأنك إن لم تجدُني الآن! فلن أجدك العمر كله. 


وهنا خيم الحياءُ عليهما ...

وقال مهند: إنه دوري.


وأخذت ماسة تنظر لمهند وهي شاردة الفكر؛ لأنها تستغل كل اللحظات لتمتع قلبها بالنظر لمهند وطريقة تصفيف شعره، وطريقة لبسه، وكل ما يتعلق به، وشدها ذلك اليوم حين كان مهند يرتب قميصه وبنطاله ويربط حزامه، فنظرت له ماسة وقد أحس بها، وتتمنى أن تأتي وترتب له ملابسه، وكأنه طفلٌ صغير بين يدي أُمه ...


وهنا صرخ الأولاد ... ماسة ... هيا لنلعب ... فعادت لرشدها وهي تبتسم لمهند.


طلبت ماسة من الأولاد والبنات أَن يستريحوا قليلاً، وذهبت ماسة لدورة المياه ... وهنا قام مهند بالبحث عنها؛ لأنه افتقدها، ولا يتحمل وجوده في مكان لا وجود لماسة فيه، فأَخذ بالبحث عنها ... ولم يجدها، فقرر أن يذهب لدورة المياه ... ولم يكن يعلم بوجودها هناك، فما أَن طرق الباب حتى صرخت، فهرعَ فزعاً، ولكنهما عندما عادا للعب قدّم لها الاعتذار بالعين والقلب والمشاعر ... فأرسلت له سهماً من عينيها تخبره أَنها تحبه.


لم تترك الأقدار ماسة دون أَن تأخذ منها براءة الطفولة، وتكسر قلبها المليء بحب مهند ومشاعرها وأحاسيسها الصادقة، فتفطر القلب وانتشر حب مهند ليملأ كل جسدها شوقاً وحزناً.


تقدمت إحدى الأقارب لخطبة ماسة لابنها ... ولم تكن ماسة تعلم ما تفعله، فقد كانت تلعب حينها في الحديقة مع الصبية ... ولم تكن تعلم أَن الأَيام بدأت ترسم لها لوحة ثانية لصورة من صور حياتها وعليها علامات الحزن والحُب والفراق والأشواق، وعلى ماسة السير في ذاك الطريق دون نقاش ... سواء أَحبت ذلك أو لم تحبه.


ماسة من عائلة محافظة ليس لها الحق بالبوح بما حواه قلبها الصغير، وليس لها الحق في القبول أَو الرفض، اليوم هو الامتحان الأَكبر الذي ستتعرض له ... فإن استطاعت عبور هذه المرحلة وإلا تغيرت حياتها بعكس الاتجاه الذي رسمته لنفسها.


كانت ماسة في كل أَوقاتها تذكر مهند، وتنتظر الفرصة للقائه، والغوص في عيناه العسليتان، وشفاهه التي أَذابت  صبرها ...


رفضت ماسة موضوع الزواج، ولم تستطع البوح بما في قلبها إلا أَن أُمها تعلم بحبها لمهند، ولكنها لم تستطِـع فعل شيء لها، كان سلاح ماسة الوحيد هو الدموع التي كان ينظر إليها مهند رغم بُعد المسافة التي كانت بينهما بقلبه ويتألم.


أَرسل مهند أُمه لخطبة ماسة التي هي في الأَساس خطيبتهُ ... ولكن أَبوها أَخذ قراره بدفن ماسة ومهند وحبهما دون رحمة.


مهند شاب وقد تسلق سلم الرجال، وتَعلَّمَ أَن الرجال لا يبكون، وإنما يموتون شوقاً وحزناً باحتراق قلوبهم، وماسة تمده بأَنهارٍ من الدموع.


مرضت ماسة ولم تستطِع السير من الحزن والهم، ولغباء أَبوها والذي تقدم لخطبتها أَخذوها للطبيب وما علموا أَن مهند هو علاجُها، فدواء الطب يسقط عند حضور دواء الحُب والقلب والمشاعر والأَحاسيس. 


تزوجت ماسة ورحلت وبقى مهند يحوم في عالمه الخاص مع صورها وذكرياتها وانقطعت أَخبارها عنه ... ولكنها لم تنساه ... نعم فهذا ما أَخبر به قلبُها ... قلبهُ، تباعدت الأَجساد والتقت الأَرواح.


عاشت ماسة حتى بعد زواجها حياة صعبة؛ لأنها كانت تعمل في البيت لخياطة الملابس، وذلك لتوفير متطلبات بيتها؛ لأن زوجها كان غير ميسور الحال وكان فقيراً، وكذلك عمتها كانت تعاملها أَحياناً بقسوة.


لم يتحمل مهند فراق ماسة، فقرر زيارتها في بيتها دون علمها، فسأل مهند عن دارِها حتى وصل إلى الفرع الذي تسكن فيه ماسة، وقلبه ينبض، تُرى كيف حالها؟ ... تُرى أما زال حبها؟ ... تُرى هل سترحب بي؟  ماسة ... أَينَ أَنتِ؟ ... فسكتَ وهو يمشي باتجاه بابهم حياءً من الناس الذين كانوا في الطريق ... فصمتَ مهند وطرق الباب.


ماسة : من في الباب ؟


مهند : أَنا ... مهند.


ماسة : من ؟ ... مهند.


أَسرعت ماسة لفتح الباب، وقلبها يتدحرج بين يديها، مهند ... أهلاً بقدومك ... تفضل.


مهند : كيف حالك يا ماسة ؟


ماسة : الحمد لله .


سألته ماسة : كيف استطعت أن تجد منزلنا ؟


مهند : يا ماسة من يسأل عن القمر يلقاه.


ماسة : لازلت كما أَنت ... وسيم جميل وفنان.


مهند : يا ماسة ، من يسكن الروح، كيف القلب ينساه؟


سكت مهند ليبدأ كلام العيون والقلوب والمشاعر والأحاسيس.


غادر مهند بيت ماسة، ولكن ذكرها في قلبه، وجعلت ماسة ذاك اليوم عيداً لا ينسى.


مرت الأيام ولعبت الأقدار دورها في قصة ماسة، إذ قَـرُبَ     اللقاء ... نعم سمع مهند بقدوم ماسة، فطار فرحاً وشوقاً لحبيبته، ولكن هذا اللقاء فيه نفس المشاعر والأحاسيس، ولكنه مختلف قليلاً ... فماسة لديها أَطفال، ومهند قد تزوج ولديه أَطفال ... ولم تعاتب ماسة مهند لزواجه؛ لأنه لم يتزوج عن حُب وإنما تزوج بنفس الطريقة التي تزوجت هي بها ... إذ أُجبر على الزواج من قبل أَهله.


كثرت زيارات ماسة لبيت مهند، وهي تريد أَن تملأ عينيها من مهند، وتسقي قلبها بسماع صوته.

ومهند يعشق قدومها بجنون، ولكنه لم يبين لها ذلك، واتبع أُسلوباً آخر للقائها، وهو دعوتها بين الحينِ والآخر لتناول الطعام سوياً والاستمتاع بالحديث معها، وإرسال نظراته حين تمشي وقلبه يحدثها.


كَـثُـرَ لقاءهما وهما يتحدثان بكلام القلوب والعيون وهمسات الحب والشوق، فبعد كل تلك السنين لازال حبهما نفسه ... بل زاد.


قرر مهند بعد أَن علم ورأى من ماسة حبها وشوقها أَن   يصارحها ... ولكنه تردد كيف يتحدث معها، ويخبرها أنه لا يستطيع العيش بدونها، فقال في نفسه: سأسألها سؤالاً فإن أَجابت، فهذا يعني أَنها لازالت تحبني، ولم تنسَ قلبي الذي تَركتُهُ بين يديها.


فقال مهند : يا ماسة هل لازلتِ تحتفظين بصورتنا معاً ؟


قالت ماسة : نعم يا مهند، وقد جعلتها في قلبي.


فنظر مهند للصور وأدارها، فوجد أنها رسمت قلبًا حول اسمه ... ففهم وقرر مصارحتها.


ماسة أُريد أَن أُخبركِ أَمراً ...


نعم مهند ، تفضل ...


ماسة أنا أُحبك ولم أَستطِع نسيانكِ يوماً.


فقالت ماسة : ومن قال لك أَني نسيتك؟ إني أُحبكَ وأَهواكَ وأَعشقُك ... يا مهند ... أُحبكَ كثيراً.


أَخذ مهند ماسة، وهي فرحة بمسك يدها، وأَخيراً قد نالت ماسة مُرادها، وصعدا للشرفة في الطابق الثاني؛ ليُريها ما كتبه على الجدار حين قدِمت لمنزله أَول مرة، وهما يتبادلان مشاعر الحب والرومانسية، وأَخيراً حصلت ماسة على ما كانت تتمناه من مهند، وقـبّـلت يداه ولمست شعره الذهبي.


فرح مهند ومسك بيديها، وأَخذها للتنزه بين الحدائق والزهور والأَشجار ليعيدوا ذكريات الماضي، وقرر أن يطلب يدها بعدما علم أَنها انفصلت عن زوجها ... ليعود الحُب والقلب لمكانه الحقيقي.


عادت ماسة بحبها وشوقها لتروي قلب مهند، وأَصبحا كأَنهما شجرة بها غصنان تمايل أَحدهما على الآخر، وهكذا عاد القلبان والتقيا.


كعادة الأزواج المتحابين تحدث بينهما بعض الخلافات، وبعض المشادات الكلامية، لكن مهند وماسة بالحب استطاعا تحويل هذه الخلافات إلى همسات حب زادت الأشواق بينهما حتى ذاب كل منهما في الآخر.


زاد هذا الحب توهجاً، وزادت ماسة في عشقها لمهند، إنه تاريخ من الذكريات والصور والرسوم والحب لا يمكن للزمن محوه.

وعادت الأقدار لترسم صوراً أخرى في سجلات ماسة بعد قمة الأَفراح التي وصلت إليها، وعاد الفراق في حياتها ليبعدها عن مهند الذي زادت الأَيام والأَحداث في حبهما.


وأَخذ مهند في عشقه لماسة أَبعاداً كثيرةٍ، فأصبحت لا تفارق خياله، وأخذ يكتب الروايات في حبها، وكذا ماسة صاحبة القلب الأبيض المليء بالرومانسية والأحاسيس، أخذت هي الأُخرى ترسم صوراً لمهند على قلبِها وبين وجنتيها، وهكذا جعلوا لحبهم جذور عميقة لم تستطِع الرياح ولا الظروف الصعبة زعزعت هذه الشجرة المثمرة.


وكحال المحبين الذين وصلوا بحبهم إلى القمة أن يغار كل منهما على الآخر، فهذه هي من أَبجديات الحب، فالغيرة قمة الحب وليس كما قيل أَنه من الشك، فماسة ومهند أَبعد الناس عن الشك، فقد اختلطت أجسادهما وأرواحهما حتى أصبحا كأنهم توأم.


دقت أجراس الفراق والبعاد أبواب ماسة من جديد، وحدث ذلك بسبب أَولادها وأَولاد مهند، فكل من أولئك الأولاد يريدون من ماسة ومهند الابتعاد ... وكأن الأيام تعيد نفسها، وزاد هذا في معاناة ماسة، وقد تحطم قلب مهند.


ولكن العجيب في الأمر أَن كل تلك الظروف والحروب لم تؤثر على درجة الحب والمشاعر والأَشواق بين ماسة ومهند، بل على العكس زادت من إشعال نار العشق، وكأنهما شابين صغيرين في مقتبل العمر، وحتى أَن هذا الأَمر قد شغل بال الكثيرين ... فوجود المشاكل والأَحزان والهموم والفتنة وعدم وجودها لم تؤثر على علاقتهما، بل على العكس كل يوم يزيد عشق مهند وتمسكه بماسة.


ومرت الليالي والأيام ترسم طريقهما بالأشواق والأنوار والأفراح حتى أصبح أحدهما يشعر بالآخر على البعد دون حديث، ويقرأ كل منهما قلب وعقل الآخر وكأنهما ساحرين أَو قارئا فنجان.


بدأت رايات الفراق والبُعد تلوح في سماء ماسة من جديد، وطرفها اليوم هو أَولاد ماسة، رغم أُسلوب التودد والرحمة والاهتمام الذي أبداه مهند لهم لم يفلح ذلك، وزادت الخلافات والنداءات من جديد لإبعاد ماسة عن مهند، حدثت بعض المشاكل التي أثرت على نفسية ماسة لكن العجيب في الأمر أَن حبهما زاد وتمسكا ببعضهما بقوة أكثر مما سبق.


أصبح مهند بين الجنة والنار، ولم يستطِـع التفكير لا بنفسه ولا بأحد على وجه الأرض إلا بماسة... كيف يجعلها سعيدة! هل سيبقى معها! هل يفارقها! أفطرت هذه الأفكار قلب مهند، لأن ماسة تعلم حبه وأخلاصه لها، وقد دار بينهما حوار فيه رايات تدعو للإبتعاد والرحيل.


مهند : ماسة هل تريدين مني الابتعاد.


ماسة : لا .. أتُريدني أن أموت.


مهند : لا تلفظي حبيبتي اسم الموت على لسانك.


وتمر أيام أُخرى تدفع مهند بالتفكر بالابتعاد خدمةً لصالح ماسة وأولادها ... فيحاول الابتعاد ليوم واحد أو أقل ... بعدها يعود باكياً، وهو يقبل قدما ماسة حباً وشوقاً، ويعودا ليذوبا من جديد في بحر الأشواق.


وتعود ماسة بسبب المشاكل التي تحدث بينها وبين أَولادها، وتطلب من مهند الرحيل، وما أن يذهب ليومٍ أَو ساعات حتى تتصل به ويعود مهند مسرعاً ويتعانقا وكأنَّ شيء لم يحدث. 


وفي يوم زاد كره أولاد ماسة لمهند حتى أَصبحوا السبب في تدهور الحالة الصحية والنفسية لماسة، وفي إيجاد المشاكل التي تعيق   سعادتها ... سعادة ماسة التي كثيراً ما كان يسميها مهند صغيرتي ... رغم أَنهما في نفس العمر، ولكن حبه لها جعله يتذكرها بصورة الطفولة حين كانا يلعبان سوياً في عالم لم يكن فيه هؤلاء الأولاد.


فَهِمَ مهند من خلال حديثه مع ماسة حين كان يقول لها: أتريدين مني الرحيل؟ 


فتقول له: الأَمرُ عائد لك ... أَو تقول له: لستُ أدري ... وأُخرى تقول له: لا أستطيع العيش دونك.


فهم مهند أَن بقاءه أَصبح دون معنى ... أَو أَن وجوده أَصبح يسبب المشاكل لماسة ... 


فقال لها ذات يوم: ماسة يا روح القلب وجنته.


قالت: نعم يا مهند يا من أُحبه كثيراً.


مهند: سنلعب لعبة "الغميضة" هل تذكرينها. 


ماسة: هل أَنت مجنون ... وأَخذت تضحك، وكيف أَنساك أَو أَنساها.


مهند: إذاً سأَبدأ أَنا بالاختباء، وعليكِ البحث عني.


ماسة: قلبي يخبرني أَن خَلفَ هذه اللعبة سر أَو شيء أَجهله.


مهند: يا حبيبتي السر بين قلوب العشاق علانية ... فقلوب العشاق شفافة كالزجاج، فيشعر كل منهما بالآخر ... المهم حبيبتي لنلعب.


اختبأ مهند ... وهو ينظر لماسة حبيبة الطفولة، وهي تبحث عنه ولا تجد له أثر ... وهو ينظر لها من بعيد، وقد غرق في دموعه.


هذا ما أراده أَبوكِ والأهل والجيران والأولاد، وفي بعض اللحظات صرحتِ به في حالة الانفعال، ولكن مهند فكر في حياة ماسة، وأَن وجودهُ أصبح سبباً لحدوث المشاكل بينها وبين أَولادها.


ماسة: أَين ذهبت ؟ أُخرج لا أُريد اللعب ... مهند.


لم تعلم ماسة أَن اللعبة التي جمعتهم يوماً هي نفسها التي ستفرقهم ...


أَخذ ماسة الحزن، وهي تفتش تحت السرير، وخلف الباب، وحتى ذهبت لدورة المياه لعلها تجده هناك، ولكن دموعها لم تُعيد الماضي ...


رحل مهند ويجر خلفه دموعه ... ولو نظرت ماسة للأرض لإستطاعت تتبع قطرات الدمع التي تسير خلف مهند، ولكنها أَخذت تبكي خلف الباب وتقول: هيا الآن فتش عني ... يا مهند.


توهمت ماسة أَن مهند تركها ورحل، ولكنها لو بحثت قليلاً لوجدته في زوايا البيت جالساً ينظر إليها، وقد علق قلبه على الباب الذي خرج منه، وهذه قطرات الدم تسيل تحت أقدامها، وقد خطت لها أجمل معاني الحب. 

عادت ماسة لحياتها مع أَولادها تخدمهم في الصباح، وفي المساء تمسك رسائل مهند لتغسلها بدموعها، وتضع ثيابه بجنبِها حتى تشم عطره.


تسارعت الأحداث وتزوجوا أولاد ماسة، وعادت وحيدة بعد أن ذهب كل منهم ليعيش حياته الخاصة. 


أَما مهند فقد أَحرقت الأَيامُ قلبه، ولم يستطِع تحمل فراق ماسة، ويحدث نفسه: هل هي نائمة الآن؟ وهل خرجت للتسوق أو التنزه؟ ولم يتحمل أَشواقه وماسة ليست أَمامه، فأَخذت صحته تتدهور يوماً بعد   يوم ... وهو اليوم الذي تمنى أَن تكون ماسة بقربه ... حتى أَنه لم يستطِع السير فأَصبح مقعداً ... وحيداً ... وأَولاده أَصبح كلٌ له عمله ومشاغله.


هنا تمنت ماسة عودة مهند وقيوده وحبه وغيرته بكل شخصيته الشبابية والرجالية وحتى الطفولية ليكمل لها قصة حبِها التي بدأتها، فقد فهمت ماسة أَن طريق الحُب طريقٌ طويلٌ، ومشاعره وأَحاسيسه ليست لها نهاية، وليس كل العشاق يستطيعون الوصول إلى نهايته.


ذهبت ماسة لزيارة قبر أُمها، وعند دخولها استوقفتها عبارة كُتبت على الجدار في بداية المقبرة ... وقد أَوصى مهند بكتابتها وماسة لا تعلم بذلك، ولكنها أَحست وهي تقرأ هذه الأَبيات أَن أُسلوب هذا الشاعر ليس بغريب عليها، خصوصاً أَن ألحانه تضرب على أَوتارِ قلبها:


الى أن نلتقي كَتُبتُ...

فيكِ الأماني...

فَسالت على بِحارِ الهجرانِ...

أحزاني... 

فكتبتُ على جُدرانِ العاشقينَ سلامٌ...

فإن قَتَلتِ الحُبَ يوماً...

ستشهدُ على جُرمِكِ الأيامُ ...

ونٌعلمُ ما سَيحِلُ بالجدرانِ...

ولكن هل فقِهتِ الحُبَ يوماً...

فبعدَ الموتِ... سَنَلتقي ... شئتِ أم أبيتِ ... 

لأضع عند الميزانِ جُدراني...

ليقال لكِ قفي... 

     ما هذا الذي... 

              كُتِبَ على الجُدرانِ !!! 


قرأت ماسة هذه الأَبيات وهي تشعر أَن الأَبيات قد خصتها هي لا غيرها.


ذهبت لقبر والدتها وكعادتها تبكي وتشتكي وتشتاق وهي تتذكر أُمها ومهند، وكيف لم تحرك ساكناً، وهي تعلم حينها أَنها تحب مهند، ولم تقُم بعمل شيء لها خوفاً من أَبيها.


وهنا ماسة أَفرغت ما في قلبها لقبر أُمها، فليس لديها من تكلمه ...


وعندما أَرادت الذهاب عثرت بصخرة، فتمسكت بالقبر الذي خلفها، وكان قد بُنيَ حديثاً، فاستدارت... وأَخذت بالصراخ والبكاء ودموعها اختلطت بين القبرين، فقد قرأت أَبيات كُتِبت على القبر:


خبَّأتُ نفسيَ عنكَ كي

لا  تراني  بل  كي  أَراك ...

 وَقلبُكَ وإن بَعدَ عني

لقياه فحتماً في يومٍ سألقاك ... 


              " هذا قبر مهند "

 ذكرها مهند حين كان معها في المهد

، وحين لعبا سويا، وحين افترقا، وكذلك حين مات ... وقد أَوصى بدفنه قرب أُمها، لأَنه يعلم أَنها ستزور قبر أُمها وستجده.


أَصبحت ماسة تقيم الليالي قرب قبر أُمها وحبيبها، تسقيهما بدموعها ... تُرى هل ستعيد دموع ماسة مهند للحياة ... وهي تُردد:


يا باطنَ الأَرضِ أَخرِجي

أَحبتي بُرهةً وأَعيدي شملنا ... 

واجمعي قلبي بقلبِ أُمي 

فبين القبورِ تاهَ شوقنا ... 

أَو أَسكنيني قرب مهنـدٍ

فلازالَ الحُب فينا باقيا ...


الأديب حسام الدين أحمد

العراق بغداد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خسرت نفسك

 خسرت نفسك متى خسرت نفسك ضيعت يومك وأمسك محوت ذكراك وإسمك لِتباع في أبخس صفقة متى سرت بهذا المضمار أين جرفك وأخذك التيار ألقيت الطهر في سعير...