مقتطف من حياة صديقة
يكاد يبتسم فصل الربيع حين كانت هي كفراشة من ألوان النار والنور تعشق الهرولة في النهار استحياء على ايقاع الخجل أمام بسمة ذلك الطفل المشاغب، وتأوي في كل مساء إلى فراشها بين أخواتها لتمارس هيام البراءة حول نبراس حلمها الصغير، تحلم أنها كبرت وصارت امرأة يافعة في عنفوان الشباب، تتبختر أمام صديقاتها بغنج مثل أختها الكبرى، وهو يعض على أنامله لأنها تنظر إليه في غنج بطرف خفي كأنها تستصغره.. كانت لا تزال طفلة وبسمتها بكر خجل، في عينيها نظرة عصفور يلاطف نسمات الصباح الحالم، كلها حياء تمارس الهروب بامتياز.. تخفي بنظراتها الهاربة خلف جفونها إيحاءات مرتبكة تولد فجأة و تختفي فجأة ، تقرأ في اشراقة عينيها حب اللهو والعبث بجدية الكبار، تحاول أن تروض اللحظات التي يجب أن تكون فيها أجمل دون تكلف بعيدا عن الخجل.. كأنها تقول في نفسها ..من قال أن قبلات آذار على الخد لا تزهر في نيسان و من قال أن عساكر آذار لا تغمد سيوفها لتجني ثمار الحب في مواسمها وينزل الغيث ليبارك اللقاء، هي تصدق بالأسطورة بل تؤمن بها لأنها مرتع أحلامها.. لا تزال تذكر أول لقاء تحت جناج القطنية في الحلم لما اغتصب ابن عمها خدها وطبع القبلة الأولي خلسة وسقتها هي بتورد خدها وتسارعت وتيرة أنفاسها وحاولت أن تملأ صدرها بأنفاس غضب مفتعل وتظهر أمامه ناهدة، لم تلتفت يمينا ولا شمالا و واصلت طريقها إلى البيت رغم ضجيج الفضول الذي كانت تشعر به و نقرات الصمت الذي يبحث عن التأويل، هبت نسمة ففزعت الورود في تلك الحديقة حولها، نبهتها فاستيقظت لتكتشف أنها في سريرها وأن الحلم انتهى وكانت اليقظة وحدها الفسحة التي صنعت الهروب من جديد.. قامت ومن عادتهن بنات الصحراء القيام باكرا يتنفسن عطر النخيل المعتق، فتحت نافذتها على البستان إنه واحة تحضن بين جريد النخيل الشامخ حكايات الصمت و وشوشة الريح وزوابع الرمل والامتداد و نكهة الزمن الجميل تحت رقراق الجداول التي تسقي الخضر الطازجة وتثير برائحه طهيها شهية المار من هنا فلا يتردد عابر السبيل أن يقتحم دون إذن عرائس بيت الضيافة ويدفع االباب ويجلس ينتظر طلة أبيها وهو يبتسم فيعطره بوابل من غيث الترحيب والكرم.. كل البيوت مفتوحة والبساتين لا سياج لها، مجتمع لا يقتني الكلاب إكراما للضيف وللمار والسائل و المحروم ، ويقول الزارع في هذه الديار حين يزرع " الزرع لله والنبت لله و من أكل شيئا لله.." و صدق من قال أن الكرم والفروسية في غير العرب بدعة..
نزلت تعانق انتعاشات الصباح، غسلت وجهها في الساقية وقطفت فسائل النعناع وعادت، كانت أمها قد أعدت فطور الصباح ، حريرة بالأعشاب و خبز ساخن و شاي وزبدة و دبس.. تسربت كعادتها إلى جناح الرجال حيث وجدته بين أبنائه في أبهته بشموخ تواضع سيد قوم تعلّم من أصالته كيف يكسب قلوب الجميع، فقام لها من مجلسه، عانقها وأجلسها بجانبه، ينظر إليها إخوتها وهم يبتسمون على مضض خوفا من أبيهم، و تنظر هي إليهم مبتسمة بتشفي المتحدية، لا أحد يستطيع أن يمنعها من تناول فطورها معه ولا من التدلل عليه، كان يرحمه الله قويا في لين و حاسما برحمة و جادا برفق و صارما في عدل.. إنها ابنته الوحيدة، تقضي كل وقتها رفقته، حفظت مواعده كلها حتى لما يختلي بنفسه ليأخذ قسطا من الراحة تجلس عند رأسه تعبث بشعر ناصيته، فيبستم ويطيب له النوم، ولما يستيقظ يجد كل ما يحتاجه جاهزا، تخدمه بكل تفان رغم صغر سنها، كانت رفيقته وخادمته وقرة عينه، وفي سن المراهقة بدأت تنسحب من المجتمع الأنثوي لتزاحم إخوتها بجانب أبيها، هي لا تؤمن بعالم الانزواء في المطبخ ، في أيام العطلة ترافقه الى البستان تسقي معه وتزرع وتقطف.. لم يجرأ أي أحد أن يتدخل لما أدخلها إلى المدرسة في زمن كانت البنات المتمدرسات يعدّن على الأصابع، واستطاع أن يحافظ بحكمته و وقاره على هيبته ومقامة، وأطفأ شعلة الرفض بحنكة الزمن والصبر الجميل، ثم أرسلها إلى الدراسة في المدينة .. لا تزال تذكر ذلك اليوم لما جاءها على حين غفلة يطلب منها أن تجمع ما تحتاج إليه للإقامة في مدرسة داخلية ولا تخبر أحدا، لم تصدق، ما سبقتها فتاة ولا امرأة وذهبت لتعيش وحدها حتى إلى القرية المجاورة، عندهم المرأة لا تخرج الا لثلاث ، من بطن أمها الى الحياة الدونية ومن بيت أبيها إلى بيت زوجها ومن بيت زوجها إلى القبر..تسأل نفسها في حسرة.. ماذا سيقولون عن أبي؟.. وماذا سيقولون عني؟.. وماذا تقول النساء لأمي لما يسمعن بخروجي ؟.. وهل يقبل إخوتي ؟.. وأعمامي، وأخوالي والجيران ؟؟.. انا متأكدة أنهم سينفظّون من حول أبي وتسقط منزلته في التراب، ترى ماذا سأفعل و أبي لا يتراجع عن أمر دبّره بعد تدبّر في ليل ؟..
مختار سغيدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق