الثلاثاء، 22 يونيو 2021

عبده داود

 جمال الروح

قصة قصيرة 

حزيران 2021


وديع واحد من أبناء رعية ضيعتنا، لطيف، جامعي، يحب يسوع، لكنه لم يكن يهتم بالمواعظ الروحية التي يلقيها الخوري جورج  على أبناء الرعية في الكنيسة...كان يقول أغلب تلك المواعظ   مسبقة الصنع، مكررة  فاترة لا تحمل الحرارة الروحية بين طياتها...

مع ذلك كان وديع صديق الأبونا المقرب، يزوران بعضهما البعض، كأصدقاء يتباريان في طاولة الزهر، ويتحادثان بالسياسة، علماً بأن كلاهما من المعارضة الداخلية، يرفضان وجود الأشخاص الخطأ في المكان الصح... وايضاً لا تخلو أحاديثهما من بعض النميمة على أخبار أهل الضيعة الشخصية...

وديع كان يحب المزاح مع صديقه الأبونا جورج، ويقول له: يا أبونا اسألك أن ترشدني على بنت الحلال، حتى تشرق حياتي، وتبعد عني وحشتي...

 الأبونا، لم يكن يهتم لكلام وديع لأنه كان يعرف بأن   ظروفه المادية آنذاك لم تكن تسمح له بفتح بيت زوجية...

ذات يوم، عائلة كانت عابرة من البلدة، قرروا احتساء فنجان قهوة عند صديقهم الأبونا ثم متابعة رحلتهم.

استقبل الأبونا العائلة بحرارة، الأب والأم وولديهما شاب وصبية...

قال الأبونا ما شاء الله، الأولاد كبروا وصاروا عرسان...

قالت الأم مازحة: صحيح أبونا سمر صارت عروس، ألا ترشد عريسا لها؟ 

نظر الأبونا إلى الشابة، سمراء جداَ، وتذكر وديع صديقه، وأحب أن يمزح معه لأنه يعرف أن وديع يحب الجمال، وهذه المسكينة تخلو منه... والأمر كله كان مجرد مزاح، والعائلة عابرة  سبيل وبالحال...

قال الأبونا ضاحكاً، عندي عريس لأبنتك سأناديه بحجة ما... 

فهم وديع سبب الدعوة، وصار يتحادث مع الصبية ومن ثم اخذا لنفسيهما مكانا محايداً تحت ظلال شجرة الزيزفون، وبديا بغاية الانسجام، وطالت الجلسة وهما مدموجان في عالمها الخاص... 

قررت العائلة متابعة السفر. قال وديع موجهاُ الكلام إلى أبو الصبية، أعذرني وبدون المقدمات المعروفة، أنا خريج جامعي، فقير، ليس عندي عمل بالوقت الحاضر، ولكن لا بد سيرزقني الله طالما أنا أحبه، وأطلب منه أن يفرجها عليّ، ولا بد هو سيسمع ندائي، لا اريد الإطالة.  وآخر الكلام، هل يحصل لي الشرف، وتقبلني خطيباً لابنتك؟

جمد الجميع من هذا الكلام الصريح والمباغت، بما فيهم الأبونا الذي أحس بأن كلام وديع جاد بما يقوله، وساد صمت... 

وتوجب على الأب الرد فقال: أود أن استشير الأبونا أولاً   واستشير ابنتي قبل أن أقول كلمتي.

قال الأبونا: وديع من خيرة الشباب... أنا أعرف معدنه النقي.

وقالت الصبية: أنا موافقة...هذا الشاب يعجبني...

الأم أصابها نوع من الهبوط الذهني، سببته لها فرحة القلب المفاجئة...لكن سرعان ما انفك لسابها، وانطلقت بالزغاريد...

استغرب أهل الضيعة الخبر، وخاصة عندما تعرفوا على الشابة التي تخلو من مسحة جمال... شمت من شمت، واندهش من اندهش... وتساءلوا ألم يجد وديع غير هذه حتى يرتبط معها؟ 

 الجميع، أهل الشاب، وأقرباؤه، وأصدقاؤه، حاولوا إقناع وديع بالتراجع عن قراره، لكنه حسم الأمر بشدة وطلب منهم عدم التدخل بالأمر قطعياً...

وكان يقول: أنتم لا ترون الذي أراه أنا، أنا أرى جمالاً داخلياً، وأنتم ترون السطح الخارجي...

بات وديع يزور خطيبته في ضيعتها، وفي كل مرة كان يزداد اعجاباً بجمالها الروحي الطاهر... 

الفتاة ايضاً أحبت الشاب، وأيقنت بأنه نظيف القلب، كانت تجثوا على ركبتيها كل مساء، وتشكر الله الذي أمن عليها بهذا العريس الذي أفرحها وأفرح أهلها، وأيضاً هي تحبه وهو يحبها... وصارت تصلي طالبة من الله أن يرزق خطيبها عملاً حتى يستطيعا أن يتزوجا...

جاءت دعوات كنسية تطلب شباباً لترسمهم كهنة في الأرياف... 

سأل أبونا جورج وديع مازحاً، لأنه يعرف جوابه بالنفي لا محال.

قال الأبونا: الكنيسة تطلب رجالاً خريجي جامعات، عازبين أو متزوجين ليصبحوا كهنة في الأرياف...ما رأيك؟ والكاهن متوقع الرفض القطعي. 

انبهت الأبونا جورج عندما قال وديع بجدية، لا بأس سأسأل خطيبتي ما رأيها في أن تصبح زوجة كاهن؟

شجعت سمر فكرة خطيبها، وقالت بقناعة بان الله هو من يريدك خادما له، وهو من دعاك إلى هذه الخدمة، التي هي أشرف الخدمات...

ذهب وديع لدراسة اللاهوت، يدرس ويتعمق ويناقش ويفهم، وكلما فهم يسوع أكثر، كلما أحبه أكثر. وأحب جوهر المسيحية الحقة.

قبيل رسامته كاهناً، تكللا وتمت رسامته، وصار اسمه ابونا وديع، وعينه الاسقف في احدى القرى الجبلية الجميلة، حتى يخدم الرعية، ويخدم دير الراهبات في تلك القرية بين أشجار الصنوبر...

ابونا وديع جذب الناس اليه في وعظاته المركزة على الفهم العميق   ليسوع، ومبدأ المحبة بلا حدود للآخرين، لم يكن يهمه الطقس الكنسي، ولا المناهج المقررة الطقسية، لا الكتب الدينية، ولا الشمع ولا البخور...بل كان يهمه أن يجعل الناس تفهم من هو يسوع، وماذا يريد منا سيدنا يسوع المسيح؟ 

والغاية من زيارته للأرض،  ألا وهي  التعايش بمحبة مع بعضنا البعض ومع الآخرين.

كذلك الراهبات احببن الأب وديع، وأحببن سمر زوجته. وعندما رتلت سمر في الكنيسة، اكتشفت الراهبات بأن سمر زوجة الأبونا، تتمتع بصوت رائع، دربوها على الترانيم الدينية، هذا مما أسعدها، كذلك ساعدها زوجها على تأسيس فرقة كورال في كنيسة القرية...

 الفرقة نمت وتوسعت ونالت شهرة في المنطقة بروعة الأداء وجمال الترانيم...حتى إن الاسقف احياناً كان يطلب سمر وفرقتها ليخدموا في القداديس الاحتفالية الرسمية...

الراهبات  كانت تشتكي بأن المدرسة صغيرة لا تساعدهن على ممارسة نشاطات مدرسية  مختلفة... 

 هناك أرض واسعة تعود ملكيتها لوقف القرية، طلب أبونا وديع الإذن من الأسقف أن يشيد على تلك الأرض مدرسة لكل المراحل... 

وبدأت التبرعات تأتي إلى هذا المشروع الكبير، وبدأت المدرسة ترتفع، وكان الواجب على الذين لا يقدرون على التبرع المالي المساعدة بمجهودهم الجسدي بالعمل...

 خلال سنة  ونيف بدأت المدرسة تستقبل التلاميذ والطلبة...

وكانت نتائج الطلبة الرسمية مشرفة.

مرت سنوات قليلة لم تعد المدرسة قادرة على استيعاب العدد الكبير  من الطلبة الذي جاؤوا من القرى المجاورة... نظرا للشهرة التي حققتها المدرسة...

جميع أهل الضيعة أحبوا ابونا وديع، وقالوا لم يأتيناً كاهناً مثل هذا الكاهن...كذلك أحبوا السيدة  سمر المتواضعة التي تعاملت مع جميع الأهالي بمودة  ومحبة حقيقية...

كان أهالي الطلبة المسلمين خائفين من ألا يقبلوا أولادهم  في المدرسة التي اثبتت وجودها بين المدارس القوية، لكن الأب وديع قال لهم: أليس الله الذي تعبدونه أنتم، هو ذاته الذي نعبده نحن؟ قالوا بلى. 

قال ابونا: نحن أخوة طالما  نعبد إلاها واحداُ...والدينين قالوا الدين معاملة ومحبة وتسامح وإخاء... غير ذلك لا يوجد دين حقيقي...

 تم تخصيص جزء  في المبنى للخدمات الطبية شبه المجانية...

 لا ننسى ابونا جورج  الذي كان يزور ابونا وديع احياناً ويقول له لقد غلبتني بما تفعله.

وصارت الكنيسة المجددة، والمدرسة النموذجية، والملاعب الرياضية، والعيادة الحديثة، والارض المزروعة... ودار للعجزة، ورياض الأطفال، ودار الفرقة الكشفية وتجهيزاتها الموسيقية. جميعها صروحاً حضارية، يعود الفضل فيها كلها إلى ابونا وديع وسمر...

عندما قرر الأسقف نقل الكاهن وديع إلى منطقة جديدة، قام أهل القرية وقالوا إن نقلت أبونا وديع من بلدتنا، سوف نصلي في الجامع...

كتبها: عبده داود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ساهجوا ذاتي

 مُحاكمة للذات # # # 2025 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ...