الكندوج
بانوراما كتبها: عبده داود
آب 2021
النبك، ضيعتنا في ريف دمشق، قصتي من الزمن الجميل أتذكر كنا صغاراً، كانوا يطلبون منا أن نقف أربعة أو خمسة شباب صغار، على أسطحة البيوت في حارتنا. نستقبل الصبايا حاملات القمح المسلوق في معاجن نحاسية كبيرة، يحملنها على رؤوسهن، ليسلمنها لنا، تصعد الصبية الواحدة بعد الأخرى على السلم الخشبي الى السطح. تسلمنا المعجن، ونحن نقوم بتفريغه وفرده في المكان المعد بعناية على سطح البيت لهذا الأمر...
الصبايا يحضرن القمح المسلوق من الجعيلة، التي هي حلة نحاسية ضخمة، كالتي يطبخون فيها في معسكرات الجيش وربما أضخم...
آنذاك، كان الناس يبنون جدران دائرية بارتفاع المتر تقريباً، في إحدى ساحات القرية، يثبتون الجعيلة فوقها، ثم يسكبون فيها كميات الماء المناسبة، والقمح المصول المنظف تماماً في غرابيل خاصة لهذه الغاية، ثم يشعلون النار تحت القمح ويلقمونه بسنابل القمح اليابسة المكسرة لمدة تزيد عن ثلاثة ساعات حتى ينضج القمح تماماَ...وحينها نسميه السليقة.
يقوم أصحاب السليقة بدعوة الشباب والصبايا ليساعدوهم في نقل القمح المسلوق من الجعيلة لسطح البيت.
أتذكر، كانت هذه الخدمات مرغوبة عند الشباب والصبايا، لأنه غالبا ما كان يتبع عملية نقل السليقة الى السطح حفلة سمر صغيرة، ووجبة حلويات من السليقة ذاتها المحلاة بالسكر والجوز وغير ذلك، كما كان يقدم العنب، الذي يتوفر في مزارعنا في شهر أيلول من كل سنة...
أحيانا بعد الوجبة الخفيفة، كان يتم حفل راقص بسيط على ايقاع الدربكة والعزف على العود، وغناء الشباب والصبايا، لكن إذا حضر المجوز والطبل تتشابك الأيدي وتدور الدبكة، وحينها تهتز الأرض تحت اقدام الشباب والصبايا...وترقص الدار فرحاً تشعلها زغاريد النسوة...
تلك الحفلات كانت فرصة لتلاقي المحبين مع بعضهم البعض يتهامسون ويتغامزن ويتواعدون...
ونحن الشباب الصغار نراقب ونضحك...
لاحقاً، يتوجب على أهل البيت تحريك القمح المسلوق المنشور تحت أشعة الشمس أكثر من مرة باليوم حتى يجف تماما، لدرجة اليباس...
بعدها يتم تنزيله وازالة الشوائب العالقة فيه، ليتم جرشه في مطحنة خاصة تسمى الجاروشة.
الجاروشة عبارة عن صندوق مثبت على قاعدة متينة، يحتوي بداخله على حجري الرحى اللذين يتم تحريكهما يدوياً بواسطة دولابين حديدين كبيرين قطر الواحد منهما بحدود المتر، أحدهما يثبت على جانب الصندوق الأيمن، والدولاب الآخر على جانبها الأيسر. يقوم رجلان قويان بتدوير الدولابين اللذان يدوران حجري الرحى وبالتالي يتم جرش القمح اليابس الذي يتساقط ببطء من الهرم الخشبي المقلوب المثبت فوق الجاروشة.
يتكسر القمح بين حجري الرحى وينزل الى أوعية يضعونها تحت فوهة الجاروشة، وحينها يسمى القمح المجروش بالبرغل...
والملفت كان صوت الجاروشة، الذي كان يزعج جميع أهل الحارة، لكنهم لا يتذمرون لأن الجاروشة ستنتقل الى بيوتهم جميعاً، بيتا، بيتاً...
يسمى القمح المكسر بين فكي الرحى بالبرغل... ويتم فصل البرغل حسب حجمه، منه الناعم، ومنه المتوسط الحجم، ومنه الخشن ولكل نوع من أنواع البرغل استخداماته الخاصة تعرفها ربة البيت.
يخزن البرغل في خزانة خشبية كبيرة مقسمة عادة الى ثلاثة اقسام تسمى (الكندوج) الذي يملأ من الأعلى، وفي أسفل كل قسم من أقسام الكندوج توجد فتحة صغيرة لها غطاء يسحب بالجر الى اعلى، ويتم سحب كمية البرغل المطلوبة، ثم يعاد اغلاقها لاستخدامها في مرات لاحقة
هذه الصور الجميلة لاتزال حية في ذاكرتي منذ نصف قرن ونيف...
ربما تلاشت بعض التفاصيل مع تلاشي السليقة، وأصبحنا اليوم نشتري البرغل جاهزاً معبأ في أكياس النايلون الأنيقة، والمطبوع عليها كلمات منمقة غالباً كاذبة، مثلاً هذا البرغل من النوع الممتاز، والحقيقة هو ليس كذلك...
سألت جدتي مرة، لماذا كل هذا العذاب تقومون فيه في الصيف؟ سليقة وجاروشة وبرغل، غير المؤن الأخرى، زبيب، وجوز، وغيرهم، ابتسمت جدتي وقالت
يا ستي، إذا لم نتعب في موسم الصيف، لا نأكل في فصل الشتاء... فهمت يا ستي.؟
إلى اللقاء بقصة جديدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق