قصة (جُرة عسل)
بقلمي د/نجوى رسلان
تَأهَب للخروج
إلى أين؟ سأبني قصراً
يكفيني مِنكَ حُضناً
لم يُلقي لكلمتها بالاً
فتلمسَتْ بذوراً
قد خبًّأتها من عَبثَ الأيام ، ودأبتْ على غرسها
تنتظر عودته يوماً
وكانتْ تمشي بين الزهور تلتقطُ حبات العسل وتملأ جُرَّتها
فهو يعشق العسل
وذات يوم استيقظت من نومِها
شعرت بألمٍ عند الوقوف على قدميها ،فاتكأت على عَصا قد ادَّخرتها للأيام البعيدة
عصا جَدتها، لقد حان وقتها
قَبل الأوان
وسارت في طريقهاوهي تذكر الله
ثم لمعت أمام عينيها حبّات العسل فبرق وميض الأمل
ونسيت أنها تتكئ على عصا جَدتها
وفجأة! عَبرتْ بجوارها أنفاسٌ قريبة ،ولكنها تبدو وكأنها غريبة
مُلوثة بغبارٍ خبيث
فاستشعرتْ وَخْزاً وكأنَّ سَهماً قد نفذ إلى قلبها فنزف مشاعر مُتبعثرة
وسمعتْ الغصونَ تتألم
لا لن أسمح بذلك
فهبَّت رياحٌ عاتية أطاحت
بالأنفاس الخبيثة
وكأن الرياح استشعرت خَوفها
ولكن الأغصان كادت تُكسر
فأخذت العصا مُسرعة ورَبَطتْ
بها أغصان زُروعها
لَعلها تستعيدُ استقامتها ، و عَزمتْ على العودة
ولكنَّ العصا لم تَكُنْ معها
فعقدت من طرحتها حبلاً ثم ذكرت اسم الله ومدت حَبلها أمامها لتتمسك به
و تَخطو خطواتٍ مُتأنية
بينما شَعْرَها قد انكَشف للمارة ، نعم غَطَّاه قليلٌ من الشيب
ولكنَّها لم تَسلم من نظراتٍ ثاَقبة ،
فاقشَعر جَسدها ولجأت إلى قشاتٍ مُلقاه على الأرض وأخذتْ منها غطاءً لشعرها
فضَحِك من ضَحك واستنكر من استنكر فلم تلتفت لهم
و إذا بها تجد مَن يَستوقِفها بقوة إنّه
عفريت القش!
كانت تسمع عنه في حواديت جدتها
هيا قُل لي قَولتكَ المشهورة شُبيك لُبيك
فاستوقفها بقوله لن أقول لك شُبيك لُبيك ! ولكن سأطلب منكِ طلباً
ماذا؟ أجئتني لأحقق أنا لك أمنياتك حقاً إنك عفريت من القش فقاطعها
سأجعلك تمشين بل تُهرولين كما كنتِ فقالت في لهفة:
ماذا؟ عليكِ بقص شعرك كُله!
كيف لي ذلك؟ إن شعرى يحمل فى حناياه لمساتٍ
حانية كنتُ أسرقها من الزمن عندما كان يضع يديه عليه لبضع ثوان ، نعم لم يقل لي قَط
أنه يحبه ، ولكني كنت أستشعر ذلك
ثم إن رسالتي فيها
أشيائي الأخرى
فصرخت لا لن أفعل.
بينما هو كان يسهر ليلاً نهاراً ليبني قصره ، وعندما انتهى منه
أسكنه بطيفٍ جميل طرق بابه
ولكنه لم ينسى حُبه قط .
أعني حُبه للعسل، فأمر بصُنع جُرة كبيرة لتستوعب أطنان العسل
فامتلات فى دقائق معدودة
وعاش بين الزهور والعطور مستمتعاً بمذاق العسل
ولكن حدث أمراً عظيماً!
وصل نبأ جُرة العسل لمملكة النمل
فجهّزت الجيوش للهجوم
عليها
و تم تداول الخبر فى جريدة النمل العالمية
فأكل البنيان وذهب القصر حيثما كان بلا جدران بلا عمدان.
بينما هي مازالت تحبو في طريقها
تجمع قطرات العسل في جرتها الصغيرة
وبعد مرور السنوات وهو واجمٌ يتندم على قصره ، يبيت على حُطامه
لقد لاحت في السماء نجمة
تنظر له ما بين إشفاقٍ ولوم ونداء
فنظر إليها نظرة متأففة قائلاً : أأنت ِ؟
نعم إنّها النجمة التي اعتادت محبوبته
أن تشكو لها آلامها عندما يَصُم هو أذنيه عنها ، وكثيراً ما أرسلت له رسائل عبرها
ولكنه لم يفتحها أبداً
وبعد أن أكل منه الشيب قدراً لا بأس به، قرر أن يفتح آخر رسائلها
فإذا بها قد كتبتْ : سأنتظركَ وسأملأ جُرتي بالعسل
( وأشياء أخرى)
وبعد تفكيرٍ طويل
جرجر قدميه عائداً لها ، وهو في طريقه يسترجع الأحداث والذكريات
وعندما وصل لها
وجد جُرتها الصغيرة
وقد امتلأت بالعسل
ولكن أين هي ؟!
إنها على أريكة هزيلة
، فنظر لها فقابلت نظراته بنظرة لم يألفها
وبين ثناياها ابتسامة صاخبة متألمة
ثم قالت له في هدوء وسكينة : مَن أنت ؟!
لقد فقدت الذاكرة ، أو لِنَقُل ذاكرة حُبها له
وها قد امتلأت جُرة العسل
وحولها طيف من الألوان المتناثرة ما بين
وفاء وود وإخلاص وأمل
إنها : (الأشياء الأخرى)
مُنِحت لمن لم يَمنح شيء
فتبقى له في ذاكرتها لا شيء
#نجوايا
بقلمي: د/ نجوى مأمون رسلان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق