يوميات مضيفة طيران
الحلقة السادسة
سحر مترجمة
سحر الآن مشغولة الفكر تبحث عن طريقة تتواصل فيها مع المسافر خبز وملح الذي كان جالساً قريباً منها، هي لم تكن تعرف حتى اسمه...كيف ستبادره، وبماذا تبادره، لكنها تتراجع وتقول لا... لست أنا من تفرض ذاتها...يجب أن أحافظ على مكانتي، هو من عليه أن يبدي اهتمامه بي، وحينها أنا أبتسم له مرحبة به، ولم لا؟ شاب أعجبني...
سحر كانت تتظاهر بالاستماع إلى زميلاتها... بينما هي تسرق السمع إلى الحوار الدائر على الطاولة خلفها، أحاديث عن أجهزة كهربائية وقطع غيار لها... كان واضحاً بان الأستاذ خبز وملح واصدقاءه الصينيين يترجمون من الفرنسية ترجمات غير دقيقة...
شعرت سحر بالجوع، استأذنت من رفيقاتها وقالت أنا جائعة ساحضر فطوري، نهضت زميلة معها وذهبتا سوية إلى المنصة الكبيرة التي تتواجد عليها مأكولات من كافة الاشكال والألوان وبكميات هائلة ومتنوعة...
(طاولة مفتوحة طويلة وعريضة)، سحر لا تعرف اغلبية تلك المأكولات، تجاهلتها جميعها، واختارت قطعة خبز دهنتها بالزبدة والعسل...وبعد ذلك جاءت المضيفات الاخريات وحملت كل واحدة منهن صينية واخترن طعامهن...
بينما كن يتناولن فطورهن، ويدردشن...ودلع تتدلع وجميع الصبايا يضحكن على فكاهاتها الحاضرة ...
فجأة صمتن، عندما جاء راكب أمس الأستاذ (خبز وملح) كما أسمته سحر، ووقف بجانب طاولتهن. وقال: أنا لويس عبود من دمشق، اتيت معكن برحلة أمس... قلب سحر أخذ يخفق بشدة، لكنها تظاهرت بعدم الاكتراث، تابع الشاب قائلاً أنا آسف يا صبايا، لكنني أرجوكن المساعدة، لغتي الفرنسية ضعيفة، وكذلك لغة أصدقائي الصينين. الصينيون أحضروا معهم كتالوجات بالفرنسية وصلتهم من شركة فرنسية يتعاملون معها حديثاً، ونحن نتعذب بالترجمة...
ارجو منكن المساعدة، أنتن بنات بلدي، وستكون هديتي كبيرة مقابل صنيعكن الذي اعتبره معروفا وخدمة لابن بلدكم...
اشارت المضيفات جميعهن إلى سحر وقلن، سحر لغتها الفرنسية قوية وكذلك الإنكليزية، ربما تساعدك في الترجمة...
شاورت سحر ذاتها، نظرت إلى الأستاذ ورأت نظرة الرجاء في عينيه، قالت بذاتها، هذه فرصة يجب أن اغتنمها...
نهضت بتثاقل مصطنع، وجاءت معه حيث هو وزملاؤه... رحب أصدقاء لويس الصينيين بحرارة بالشابة المضيفة، ذات الجمال الساحر...
ترجمت سحر لهم الكتالوجات بدقة احترافية، واستوعب لويس الموضوع تماماً، ووافق على شراء معدات كثيرة، لكنه اشترط معاينة الأجهزة على أرض الواقع، ودراسة حركتها وطاقتها الإنتاجية عند التشغيل...
كان لا بد من السيد (خبز وملح) عفواً، الآن صار اسمعه لويس عبود أن يترجى سحر بان ترافقهم إلى مقر الشركة، وزيارة المعمل، هي ترددت، لكن المحرج هو الحاح الصينيين ذاتهم، ورجاؤهم الحقيقي بان تبقى معهم لأنهم كانوا جداً سعداء بدقة ترجمتها ولباقتها في الحديث...وهم غير قادرين على فهم تعليمات الأجهزة ومواصفاتها...لكن بعدما جاء الصينيون جميعهم إلى طاولة المضيفات وترجوهن أن يسمحن إلى سحر بمرافقتهم...وافقت سحر الذهاب معهم.
في الحقيقة سحر كانت في غاية السعادة أن تكون بجانب لويس، الذي سحرتها عيناه ولباقته وطريقة تعامله مع الصينيين، ولو إنها كانت تتظاهر بعدم الاهتمام بكل ما يدور حولها...
أمس لم تكن تعرف حتى اسمه، واليوم صارت مترجمة له، تساعده وهو يترجى خاطرها، لتكمل المشوار معه الذي قدم من سورية خصيصاً لإنجازه...
الحقيقة سحر كانت تشعر بالفرحة الشديدة لمرافقة هذا الدمشقي الغريب الذي كانت نظراته إليها نظرات حنان واعجاب وامتنان...
المعمل ضخم جداً، يرى المرء أوله، ولا يرى آخره، خطوط انتاج مختلفة، خطوط فك الصناديق، وخطوط تجميع القطع، وخطوط الفحص النهائي على المنتجات الجاهزة، وخطوط تعليب وتغليف، لأجل السوق الصينية أو المعدة إلى التصدير...بالفعل ورشات عمل كبيرة، وقد شبهت سحر العمال والعاملات بخلايا النحل التي تنتج العسل دون كلل أو ملل...
عاين لويس الأجهزة والمحركات التي يريدها، وتم تجريبها حسب الكتالوجات. أعجبته ووافق على شرائها...
دخل الجميع على مكتب الإدارة الفخم، استقبلهم مدير المعمل بترحاب، ومعانقة حارة مع لويس، من الواضح بأن صداقتهما قديمة وحميمة...
بعد أن تم التوقيع على عقود الشراء، تقدم المدير حاملا ظرفاً مغلق وقال: آنسة سحر أرجوك أن تقبلي هديتنا المتواضعة هذه...
حاولت سحر أن ترفض الهدية لكن مدير المصنع أصر عليها. وقال الخدمة التي فعليتها لنا اليوم كبيرة، وهديتنا لك متواضعة مقابل ترجماتك الممتازة...
في نهاية جلسة العمل، قال المدير:
يصادف اليوم العيد السنوي لنادينا، نادي النخبة، أنا أدعوكم وبإلحاح إلى سهرة الليلة، وقال في الساعة الثامنة مساءً، ستصل سيارتي إلى فندكم لتنقلكم إلى النادي. سأكون أنا وزوجتي وأصدقاء لنا في استقبالكم...
عاد لويس وسحر إلى الفندق، قال لويس دعينا نتناول وجبة الغذاء، أنا لا أزال بدون طعام منذ أمس...
ضحكت سحر وقالت ربما قطعة (خبز وملح) تكفيك... وضحكا... وصعدت هي إلى غرفتها واستلقت على السرير.
تنبهت عندما سمعت نقراً على الباب، وإذ سيدتان تبدوان خياطتين تحملان ثوباً طويلا ورسالة من لويس تقول هذا الثوب هدية مني لك من أجل سهرة اليوم. الخياطة سوف تركزه لتجعله مناسباً لك، أكيد أنت لم تحضري معك ثوباَ إلى هكذا مناسبة، كما حجزت لك عند مزينة الشعر هي ستناديك.
في الساعة الثامنة هاتفها لويس... نزلت سحر بأحد المصاعد الفخمة إلى القاعة الرئيسية، مرتدية ثوب السهرة الرائع. وشعرها مصفف بطريقة يناسب جمال وجهها.
هذا التأنق زاد في جمال سحر وتألقها، عندما رآها لويس أدهشه هذا الجمال الرائع، وبعفوية صاح كم أنت رائعة الجمال يا سحر، أنت اليوم سفيرة سورية في بكين... أحمر وجه سحر خجلاً، ولم تجد كلمات مناسبة تقولها، واكتفت بكلمة شكراً بالفرنسية (مرسي)...
فتح لويس علبة مجوهرات وقال لها هديتي، وأخرج منها عقد رقبة جميل، مناسب لثوب السهرة وثبته على رقبتها، هي شعرت برغبة شديدة بضم لويس وبتقبيله، لكنها تماسكت واكتفت بكلمات الشكر...وقالت بذاتها، الخطيب لا يعتني بخطيبته كما يفعل هذا الغريب معي. رغم أن معرفتنا لا يتجاوز عمرها الساعات... لكنها كانت كافية لها، حتى تجيز لذاتها أن تبحر في عيني لويس بحرية وتزداد اشتياقاً له، صحيح هو بجانبها، لكن في الحقيقة هي أدخلته قلبها...
ركبا سيارة مدير المصنع (ليموزين فخمة) وانطلقت بهما إلى افخم نوادي بكين، نادي النخبة...
عند مدخل النادي، لاحظت سحر جميع السيدات القادمات يتأبطن أذرع الرجال الذين يرافقهن...تريثت سحر بالدخول، شابة تحضر إلى سهرة النادي الرسمية مع شاب، يجب أن تكون صديقته أو خطيبته أو زوجته. هذا مكان راق، لأكابر سكان بكين... لا يجوز أن تدخل هكذا دون أن تضع ذراعها في ذراعه...حتى تكون لها صفة اجتماعية رسمية...
هو تدارك الموقف، لوى ذراعه، وغمز سحر مبتسما، وهي تريثت قليلاً، لكنها مدت ذراعها بحركة خجولة، وتأبطت ذراعه ودخلا...
أغلب الموجودين نظروا اليهما باستغراب وتساءلوا من يكونا؟ من هذه الفاتنة؟
سحر كان يخفق قلبها بشدة كونها تأبطت ذراع لويس، رغم سعادتها المفرطة، لهذه الحركة التي تجاسرت وفعلتها...لكن كان يجب أن تفعلها...
حسب مقتضيات الحال.
كاتب القصة: عبده داود
إلى اللقاء في الحلقة السابعة
الحلقات السابقة متوفرة مجاناً للجميع في:
(مجموعة يوميات مضيفة طيران
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق