يوميات مضيفة طيران
ع
ودة سحر
الجزء الثالث
أهل سحر صاروا مذعورين، وهم يستعجلون الجواب من هدى، أين سمر، أين أختك؟؟؟
استجمعت هدى قوتها المنهارة، حتى ترد على تساؤلات أهلها المضطربة المستعجلة، وهي ترتجف مرعوبة، لكن لا مجال للمماطلة أكثر، ولا بد من أن تخبرهم الحقيقة... قالت وهي تتأتئ، وعيناها جامدتان في الأرض، سحر طارت اليوم إلى اوروبا، كمضيقة على الخطوط الجوية السورية، وسوف تعود إلى دمشق يوم الجمعة القادم...
جحظت عينا الأب، وجحظت عينا الأم، ونظرا إلى بعضهما البعض نظرات مستنكرة غاضبة، هدى لم تشاهد مثلها يوما في بيت أهلها...
الذي صار بعد ذلك كان مرعباً، انفجر بركان الجنون، نهض الأب بعصبية شديدة، وصار يزأر بصوت لم يسمعه أحد من قبل اليوم، ووضع يده على قلبه، وهو يصيح ماتت سحر، كان خير لك يا سحر أن تموتي قبل أن تطيري، ثم دخل المطبخ وأخذ يكسر الاطباق، وكل الزجاجيات التي يراها أمامه، ثم قلب مائدة الطعام، وأخذ يخبط الكراسي على الأرض بغية تحطيمها... ثم دخل غرفة ابنته، وسحب ثيابها من خزانتها، وأخذ يدوسها بقدميه، ويمزقها وهو يصيح: كان عندي ابنة اسمها سحر وماتت... يا ناس تعالوا عزوني، ماتت سحر...
الأم كانت تجهش بالبكاء طيلة الوقت. لكنها كانت صامتة لم تنطق بحرف واحد، كأن الكلام تجمد في حلقها أو ربما ارتبط لسانها...
هدى أصيبت بخوف شديد، صارت ترتجف خوفاً من أن يصيب أهلها مكروه ما... كان الليل يزداد حلولاَ، ولم ينم أحد في تلك الليلة العصيبة الهائجة.
عندما اخبرت هدى سحر بما فعله والدها، صار قلبها ينزف الماً، ويشعرها بذنب كبير فعلته، وخشيت من ضرر قد يحدث لأهلها، حينها ستكون المصيبة جارحة، وخاصة هي تعرف بأن والدها يعاني من ضعف بالقلب، كانت تصلي ودموعها تغرق عيناها، حتى يجيز الله عن أهلها أي مكروه محتمل...
تهامدت ثورة الأهل رويدا، رويداً... وانخفضت أصوات الغضب، وتخامد الصياح والعويل بالبيت، وخيم على العائلة سكون الصمت الحزين، وكأن العائلة اصابتها مصيبة كبيرة، أو فقدت عزيزاً غالياً عليها...
صباح يوم الجمعة، موعد حضور ابنتهم من رحلتها، العائلة كانوا صامتين ومحتارين بأمرهم، كأنهم في تعزية...
كانوا يحتسون القهوة في ساحة بيتهم، بجانب الياسمين، تحت شجرة الكباد، عندما كسرت الأم الصمت وقالت: كل المصيبة أنت سببها يا هدى... أنت التي شجعتي أختك على هذا العمل التافه، وأنت التي اوصلتها إلى المطار، وأنت تتعاطفين مع هذه المجنونة، أنت التي نقول عنك: صبية ذكية، حكيمة، عاقلة، كيف طاوعك قلبك أن تفعلي مع اختك ذاك الذي فعلتيه؟ هل تريدين أن تضيعي اختك في شوارع العالم...تكلمت الأم وتكلمت، وعينيها مغرقتان بالدموع. والأب صامت حزين شعر بان الأمور خرجت عن سيطرته، ووضعته في المكان الصعب... وماذا سيفعل الآن؟ هل سيطرد أبنته من البيت؟ أم ماذا سيفعل؟ لذلك لاذ بالصمت ولم ينطق بحرف...
عندما انتهت الأم من لوم ابنتها.
تكلمت هدى بصوت منخفض وهادئ وبثقة وبحذر، وهي تدرك بأنها تملك الحق، وتؤمن به، وقالت، أنت تقولين عني بأنني حكيمة، ذكية، ألازم الصالح، وابتعد عن الطالح...حسناً، أرجوكما أسمحا لي بالكلام بشفافية وبصراحة مطلقة.
أخبراني أنتما ماذا فعلت لكما ابنتكما حتى تحطمانها بهذا الشكل الرهيب والمريب؟...بماذا أخطأت ابنتكما حتى اضرمتما فيها أتون حربكما الإرهابية؟
ألانها أوجدت العمل الذي تحبه، والذي كانت تبحث عنه منذ سنتين، ولم تكن حتى لتعرف ما هو ذاك العمل؟
وتابعت هدى: عندما كنا طلبة في الجامعة، كانت سحر تأخذنا إلى المطار، حتى تستمتع بمنظر الطائرات التي تحط، على المدرج، او تقلع منه وتحلق في البعيد... آنذاك لم تكن هي تعرف بأنها عاشقة الفضاء، كانت تسعدها كتب الرحلات والسفر عبر العالم، لكن لم يخطر ببالها يوماً انها ستعمل في الملاحة الجوية، وعندما وجدت العمل، أحست بانتمائها له، امتلأ قلبها بالفرح والابتهاج. سنتان وهي تبحث عن عمل يفرح قلبها، وعندما وجدته، اردتما تحطيم حلمها بثورة ظالمة، انتما والديها مارستما عليها الإرهاب وقذفتماها بحمم ملتهبة، ولماذا؟
أختي، شابة مهذبة، جامعية، وتحمل ألله، وتحمل مريم العذراء في قلبها. لم تزعج احداً في يوم من الأيام... الجميع يحبونها. وهي تحب الجميع...
أتخافان عليها من الضياع في شوارع العالم كما تقولون، أم تخافان عليها من حوادث الطائرات؟
يا أهلي، الفتاة التي تريد الضياع، تعرف كيف تضيع، ولو كانت مسجونة خلف الجدران العالية، ستجد الطريقة التي تضيع فيها...ربما أنتما خائفان عليها من حوادث الطائرات في العلالي...
لعلمكما، نادرا ما نسمع عن حادثة طيران في الفضاء...بينما نسمع كل يوم عن ألف حادثة سير في شوارعنا، وخاصة تلك التي تسببها السيارات السوداء التي يعتمون نوافذها حتى لا يخجلوا مما يفعلونه بداخلها، يقودون سياراتهم بسرعة جنونية، وكثيرا ما يسببون حوادث مختلفة ويهربون، وغالباَ الشرطة ذاتهم يساعدوهم على الهرب...والحديث في مجال الفساد طويل، طويل...
أنا أقول لكم وبصراحة، لا تغضبوا مني، سحر قادمة اليوم الساعة الخامسة بعد الظهر، أنا ذاهبة لاستقبالها في المطار، سوف آتي بها للبيت، وإذا كنتما لا ترغبان بحضورها، هي ستنام في المطار، وأنا سأمكث معها، وأنتما ستفقدان ابنتكما إلى الأبد، وسيكون موقفكما المتشدد هذا، هو سبب ضياع ابنتكما، لا تلومانها على عملها، ليس في عملها ما يشين... وابنتكما لا تفعل ما يخجلها أو يخجلكما... الآن عليكما أن تقررا هل ستستقبلانها، أم سأبقى أنا معها في فندق المطار؟
والدي سحر ارعبتهما فكرة خروج ابنتهما من البيت، وأحسا بخطورة الأمر فعلاً إذا استمرا بموقفهما المتشنج والمتصلب هذا.
استقبلت هدى اختها وأحضرتها إلى البيت...لا تسألوني أصدقائي كيف تم اللقاء بين الأم وابنتها... أم أرعبتها فكرة أن تفقد ابنتها، وتكون هي سبب ضياعها، لكن عندما استفاقت من حلم مرعب وجدت ابنتها في احضانها... وكانت فرحتها لا توصف... وانهالت عليها بالقبل، والدموع تنهار من عينيها...قبلات ودموع تتساقط فرحاَ...
سحر شعرت بالارتياح، وسألت أين هو والدي؟
قالت الأم: ذهب وسيعود بعد قليل...
هدى كانت لا تكف عن سؤال اختها، وتلح عليها أن تخبرها كل شاردة وكل واردة... أين ذهبتِ؟ ماذا فعلتِ؟ ماذا لبستِ؟ ماذا شاهدت؟ أخبريني كل شيء، بالتفصيل، ولا تنسي حرفا ولا حتى نقطة...
تأخر الأب عن الحضور، اضطربت سحر وتساءلت ربما والدها لا يريدها في المنزل، أرتجف قلبها وأغرقت الدموع عينيها، وبتردد الخائف اتصلت بجوال والدها وقبل أن يجيب قالت له: يا أبي، إذا كنت لا تريدني في بيتك، سأرحل عنه في الحال، وأرجع أنت إلى دارك...
لم يستطع والدها أن ينطق بكلمة واحدة ، واجهش بالبكاء، كان والدها حينها يشتكي على ابنته... عند الكاهن ميشيل صديقه،
أخذ الأب ميشيل الموبايل من صديقه وقال: الحمد لله على سلامتك يا ابنتي، سنحضر أنا وابوك لنتناول العشاء عندكم...
قالت الأم هذا حسن، سنطلب عشاء حاضرا من السوق، أرجوكما أنتما، رتبا المائدة، واشعلا الشموع، وضعا الورود عليها، سنجعله عشاء احتفالياً بعودة سحر إلى بيتها...
كاتب القصة" عبده داود
إلى اللقاء في الجزء الرابع
الذين يرغبون بقراءة حلقات سابقة يجدونها في (مجموعة يوميات مضيفة طيران).
أهلا بالجميع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق