عبدالصاحب ابراهیم امیری:
قصة قصيرة
عبد الصاحب ابراهيم اميري
************
قضى عمره مع الكتاب والقلم ولم يفارقهما حتى ساعة واحدة ، كأنه ولد مع الكتاب، هكذا عرف بين أقرانه عشق الأدب وأبرع فيه ، ومولفاته تجاوزت عشرات الكتب قضى عمرا في حقل التدريس، إضافة إلى عمله في مجال الإعلام رجل متعدد المواهب ،. لم يتمكن العمر ان يغلبه حتى لحظة واحده ، تراه شابا في الثلاثين، قوي البنية محبا للخير والسلام ، وسر سلامته تمكن في ممارسة الرياضة كل صباح ومنها الى المكتبة العامة ، فهي داره الثانية ، يحقق ويطالع يتجه بعدها إلى الصحيفة إذ يعمل محررا أدبيا
القهوة تشكل ركنا مهما في حياته ولابد من تناولها حينما يشعر باحراج فكري تفحص ارشيفه الفكري بعد تناول قهوته ، بهدوء عسى أن يجد موضوعا يناسب قصة الأسبوع التي يكتبها للمجلة دون جدوى لانشغال ذهنه بمواضيع شتى ،
رن الهاتف واذا به يجد نفسه أمام صوت مضطرب ، قلق، خائف لا يستقر على حال
-عمي الأستاذ فهمي، أريدك بأمر مهم
-من
أحمد
-نعم أحمد صالح
-رحم الله والدك،، ان شاء خيرا ، سأكون بعد ساعة بالبيت، اذا أحببت سأكون بانتظارك
ما أن وضع سماعة الهاتف ، علت
أصوات عيارات نارية تخترق اسماع الأستاذ فهمي، استعادها ما أن حضر اسم صالح
************
. أستيقظ فهمي من النوم فزعا، وأصوات العيارات النارية تخترق الاسماع اصفرت وجوه أفراد أسرته الصغيرة ، جمعت الأم صغارها تحت مضلتها بينما رمى فهمي نظرة عبر شباك النافذة للخارج، رصاصة ، أطلقت عشوائيا، مرت بالقرب من أذنه سحب نفسه للداخل ، قوات الشرطة حاصرت الزقاق،
صوت الآمر يسمع عاليا
-، هرب للسطح ، فتشوا سطوح المنازل، لا تدعو هذا اللعين يهرب من بين قبضتنا،
تمتم فهمي بهدوء
-بين فترة واخرى، نشهد هذا المشهد،. لم لم يتركوا صالح المسكين بحاله
أصوات أقدام تسمع من على سطح منزل الاستاذ فهمي، يترك الغرفة باتجاه ساحة المنزل ونظراته ملتصقة بسطح المنزل
-من
صرخة الزوجة باكية
-عد للداخل يا فهمي، الا تسمع العيارات النارية، واحدة منها تكفي ان تجعلك معاقا طيلة عمرك.
صوت مضطرب يسمع بوضوح
-أفتح باب السطح، انا صالح يا فهمي
-سافتح يا صالح
****
أنهالت عليه الاتصالات كالمطر ولم تتركه بأمان ، زوجته ، تعاتبه بقساوة لعدم السفر معهم
- و ماذا تعمل في غيابنا
، الرجل من دون إمرأة لا يساوي شيئا
ما أن وضع الهاتف حتى رن الهاتف من جديد، هذه المرة المتصل أبنته الكبرى، تدعوه ليقضي الليلة عندها، تخاف عليه الوحدة، والأغتيالات التي تتم دون حساب، وهو يؤكد عليها أن لا تقلق، ولن يفتح الباب لغريب
إضافة إلى سيمفونية المطر وايقاعها الشديد والتى تشير إلى أن السيل سيكون أمره محتوما،
، زوجته لن تتركه بأمان تتصل ثانية
- الوقت تأخر، أخاف عليك، ماذا تفعل بالصحيفة حتى هذا الوقت، يقولون الأمطار عندكم غزيرة وأخاف عليك من السيل ، بالله عليك اسرع للبيت
أطل من شباك مكتبه يتفحص الخارج مياه الأمطار غمرت الشارع وتداعب أبواب الدور والمحلات، وتسللت إلى بعضها،
قوقعة السماء تعلو عاليا كانفجار جبل، كل هذه الأمور أجتمعت معا، لتؤكد لفهمي العودة بأسرع وقت والبقاء خارج المنزل لا ينفعه بشيء
الساعة تجاوزت الثامنة والنصف مساء ولم يتمكن من أن يخط حرفا واحدا لقصته الأسبوعية ، جمع أوراقه من على مكتبة صارخا في وجه الخذلان
- ساكتبها الليلة حتى وإن سهرت معها حتى الصباح
************
ما أن وصل لبيته بعد أجتياز الأنهار المستحدثه من الأمطار والمستنقعات ،
نزع عن نفسه ثيابه المبتلة من هموم يومه الصعب والممطر. ليرتدي ثياب شخوص قصته،. ويعيش عالما حالما، لعله يصطاد شخوصه، فالقصة ولابد من إنجازها
أعلنت الساعة التاسعة مساء، طبق رنين ساعة المكتب،. نظر الرجل الستيني الوسيم للساعة وكأنه قرأ أفكارها، وردد بكلمات غير مسموعة ، كمن يخاطبها
نعم حان وقت كتابة قصة الأسبوع،.
- لولاك ماذا كنت أفعل يا ساعتي الوفية
علا صوته قليلا كمن يحدث إنسانا
-لو سمحتي يا صديقتي ، سآتي بالقهوه لتكون مفتاحا لعقلي بالنهوض والغور في تفاصيل الأحداث التي أجهلها،،. القهوة مع لونها الداكن وطعمها المر ،. تنشط العقول،
قهقه عاليا يطلقها دون إختيار ، ، شع على اثرها بياض أسنانه المنتظمة والتي تكاد تشبه أسنان الشباب وتضيف اليه جمالا خاصا
-انها مادة جيدة للإعلان عن أهمية القهوه،
لحقتها قهقهة عالية أخرى تسمع من خارج شباك مكتبة ، ثَم طرق على نافذة الغرفة، يقف دون حراك
يقترب رويدا صوب الشباك مرتبكا
-من
-شخص ترك لك رسالة
-"لي انا
-نعم لا داعي لفتح الباب، ساتركها لك عند النافذة وأرحل
يجمد الدم في عروق الأستاذ فهمي ويمتلكه الخوف، ينصت للخارج، وإذا يسمع صوت أقدام تبتعد تدريجيا، يتنفس باطمئان، ، ينظر للخارج تقع عينييه على ورقة بيضاء مطوية موضوعة خلف النافذة ، يتناول الورقة بيد غير مستقره، يغلق الشباك بسرعة، يفتح طيات الورقة والعرق يسيل من وجهه
يقرأ فهمي والخوف قد أمتلكه
-اذا أردت الأمان لا تتدخل بقصة أحمد، انه يجب أن يلحق بابيه
*******
ينزف صالح بشدة،من يدية أثر إصابته بعيار ناري، يحاول فهمي تضميد الجرح
-صدقني يا صالح اني اخاف عليك، لم لا تترك السياسة وتعيش كالاخرين، هل ينفعَك الكلام بشئ
-تقصد نكون كالبهائم، يافهمي
-لا أنا لم اقل ذلك ، إتق شر من احسنت
*************
صوت أخل بسكون المنزل، واقلق فهمي ، أختفت إبتسامته و اصفر وجهه تفحص المطبخ بحذر،. واذا به يبصر درب ابريق الماء المغلي الموضوع على الموقد، يرقص طربا على أنغام سخونة الماء وكأنها فرقة الأبريق الموسيقية
خطى خطوات مسرعة تجاه المطبخ المطل على مكتبه ، ليعد قهوته ،. غلق مفتاح الموقد هدأ الأبريق قليلا لانتهاء العزف،
تمتم بصوت غير مسموع،
- القهوة وجهزتها، ماذا عن موضوع القصة
أقطب حاجبيه كمن رد على السائل بغضب
-انت تسخر مني أم نسيت أسلوبي في الكتابة، الأحداث تظهر بموقعها، يكفي ان تجهز منصتك، هذا ما افعله حين اكتب أعمالي المسرحية، اترك شخصياتي تتصرف واراقبها بحذر ، دون أن امنعها عن أي فعل
ياخذ الرجل الستيني رشفة من قهوته بلذة كبيرة، يحرك قلمه على الورق، عسى أن يامره بكتابة نص معلوم . يعلو رنين هاتفه النقال
-يا ترى من يكون
.،يغير نظارته الطبية ليتعرف على المتصل،. ما أن يقع بصره على الإسم، حتى ترتسم على وجهه ابتسامة،. تقرأ فيها معرفته التامة بالمتصل
-أنه جارنا العصامي، ابن صديقي صالح المرحوم . لن يتركني ما لم أفعل له شيئا
انه هو الآخر كأبيه
-نعم يا أحمد تفضل، رحم الله والدك المرحوم، لقد جاهد في حياته، جهاد الأحرار، الأيام التي كان معي في التدريس كانت من أجمل الأيام
-أستطيع ان اخذ القليل من وقتك أستاذ
فهمي
-هل استطيع ان افهم َماذا تريد مني في هذه الساعة، الأمطار غزيرة والوقت متأخر
- لا اريد منك شيئا سوى أن تكون والدي،. إذ كنت لا تمانع
تتسع حلقة الإبتسامة على وجه الأستاذ فهمي
-هل أستطيع أن ارد لك طلبا ولابيك المرحوم افضالا كثيرة علي، أسرع ياولدي وقتي ضيق ولابد أن أنجز الليلة قصتي
-دقيقة وأكون عندك يا عم
أستعرض الأستاذ فهمي قصة جاره الشاب
قضى صديقه ، والد أحمد صالح حياته مدرسا ومناظلا. دون أن يبالي بالعيون التي كانت تحاربه ، ومحاولات قتلته باتت بالفشل قبضوا علية بتهمة سياسية وأودع السجن وأنقطعت أخباره، كه اغلب السجناء الذين سجنوا بتلك الفترة حتى قيل عنه قتل في السجن او أعدم،
وأنتشر خبر وفاته بين أصحابه ، توفيت زوجته بطريقة مرموزة
واودع احمد بمدارس الأيتام،
، فهمي ووفاء لصديقه لم يترك إبن صديقه أحمد بحاله، كان يزوره بين فترة واخرى،
سنوات قاسية مرت على هذه الأحداث واذا بطارق في ليلة ممطره يطرق منزل فهمي
، ما أن يفتح فهمي الباب واذا به يواجه شابا يشبه إلى حد كبير صديقة صالح،
الذي أختفى في قعر السجون ، يعود إبنه من دار الأيتام بعد تخرجه مهندسنا، ليبدأ الحياة من جديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق