قصةقصيرة
قرابين على أعتاب دجلة ....
أكملت دراستي الجامعية، وطيلة خمس سنوات فشلت في الحصول على عمل يلبي متطلباتي ورغبات أطفالي وزوجتي واحتياجات والديّ. فقررت بعد تفكيرٍ حادٍ الالتحاق بالجيش على الرغم من ارتعاد فرائصي خوفاً على فراق أهلي، إذ لاطاقة لي بالابتعاد عنهم ..
أمي التي عانقتني طويلاً ودعت لي من أعماق قلبها وهي تذرف الدموع توسلاً
-وتطلب من اللّـہ̣̥ عودتي
- (ربي يحفظك وترجع لنا بالسلامة).
حملت أمتعتي وغادرت مدينة الخيرات متجها إلى تكريت عند قاعدة سبايكر.
حين وصولي استقبلني آمر السرية و تم تزويدي بملابس عسكرية، وخصص لي سريراً. ركلت حقائبي المعبأة بالخيبات والخذلان ووضعتها على يمين السرير
واستلقيت آخذاً نفساً عميقاً،
ووكلت أمري على الله والحياة ربما ابتسمت لي،
وأحلامي بدأت تتراقص أمام عيني، أخذتني غفوة من شجة
مالقيته من عناء، السفر .
كل يوم كنت أستيقظ باكراً وأتجه إلى ساحة التدريب وأنتظر راتبي الآۆلْ بفارغ الصبر .
كلما تذكرت زوجتي أبتسم وأقول لنفسي: سوف يتحسن نظر عينيها بعد إجراء العملية. بقيت على هـذا المنوال حتى ذلك الصباح المشؤوم الثاني عشر من حزيران.
بدأت الريح تعوي في وحدتها العميقة .
كان يوماً طويلاً
أنظر إلى الأفق البعيد
شارد الذهن بقلب قلق . تتماوج أفواج الجموع ما بين الساحة وبما يسمى باب النظام..
لم نكن نعلم من قبض ثمن أرواحنا تحت طاولة المؤامرات. يبدو أن حقائب الخيبات مازالت ترافقني ،
تدافعت الجموع نحو باب المعسكر و أمواج الخوف تقذفنا إلى شواطئها فلم تكن هناك سيارات تنقلنا إلى بر الأمان.
وما هي إلا بضعة أمتار تفصلنا عن أفاعٍ خرجت من جحورها، ناصبة فخاخها حائكة شباكها متوارية متخفية مستعدة لنهش أجسادنا
أشبه بتماسيح خارجة لتوها من المستنقعات
ضباب.. غيوم.. حمراء ممزوجة بالسراب ..تلبسنا الخوف والريبة ورحت أشعر بخفقان قلبي وانخلال لعابي بمرارة مع حاجة عميقة للبكاء. أكل رؤوسنا الهلع وجميعنا نتشاطر بهذه الهواجس والمخاوف. شعرت بضيق في الصدر، ازدياد ضربات القلب وحاجة عميقة للبكاء،
أوثقوا أيدينا ..وجوههم مكفهرة متربة ناشفة من عرق الحياء،وصلنا للقصور الرئاسية. أجهشت الجموع بالبكاء، وهي رافعة هاماتها وقوائمها ملامحهم مشوشة تتحرك ملبدة بالحيرة والفزع. وراحوا يتفحصون بدقة وجوهنا الكالحة القادمة من مغارة الوجع والخبز المغمس بالدماء،تسمع اصطكاك أنيابهم من صرير الخوف.الصراصير يرتفع صوتها .. ذلك الصوت الكئيب الخشن
يفتحون أبواب مقابر.. أثرية صدئة. لم تفتح منذ عصور الجاهلية. قاموا بتقسمينا لثلاثة مجاميع، مجموعة النهر ومجموعة المقصلة. ومجموعة المنصة.
أنا من أفراد مجموعة النهر، استسلمت للدوامة الرهيبة لقد دنت النهاية. جميعهم يراقبوننا لقد تأهبوا لذلك جلادون متوحشون متعطشون للدماء ويلتفون حولنا كما يلتف الناس حول مائدة يأكلون منها… بشراهة. من لحومنا أحس بأسنانهم تنغرس في تخوم جسدي وهم يثرثرون بذكر •اللّـہ. بدأت الرياح تشتد من وطأتها وتضرب أذرع طاحونة الموت المنصوبة على حواف النهر. صرخ بنا الجلاد أوقفنا بطابور بدأ يطلق الرصاص، تجمد الدم بعروقي اصطكت أسناني وشلت ساقي وباتوا لٱ يستطيعون حملي… اقشعر بدني
نادى ب •اللّـہ̣̥ اكبر
آه آه اخترقت الرصاصة جمجمتي جسدي يرتعش رعشاته الأخيرة أشعر بضيق في صدري اختناق بالفم تيبس لساني مع غرغرة الموت ..
ركلني بقوة حتى سقطت جثتي في قعر النهر.
خرجت روحي ترفرف بأجنحتها المنكسرة. الشمس جنحت نحو المغيب.
الظلام احتضن أشلاء الجثت. مازالت روحي ترفرف حتى أناخت برحلها على أعتاب دار أهلي .
أمي فقدت رشدها باتت تضرب نفسها
تلطم تولول حتى سلخت جلدها من كثرة اللطم . تندب ابنها الذي قتل بسلاح الغدر والطائفية كلما اشتمت ملابسه فراحت في غيبوبة. غيمة سوداء تغطي سماء منزلنا.
زوجتي التي ضعف بصرها أسمع صراخها ..وهتافها النابض بعاصفة الحنان المفعم برائحة الذكريات الطرية
فألمحها تجري مذعورة متعثرة بخطوتها وحزنها وانكسارها شعرها مشتت تارة تصرخ وتارة. تحتضن أولادها فيخفت عويلها تستسلم مفجوعة تدفن وجهها تحت وسادة الحزن.
أبي الذي يئنُ كطائرٍ جريح في هوةٍ عميقة يكفكف دموعه بظاهر يديه احتشد. الناس في باحة أمام باب الدار وطوابير سيارات المسؤولين.. علقت يافطات نعي الشهيد البطل على سياج البيت المتهالك.،
الفصائل تستعرض بأسلحتها يطلقون الرصاص بالهواء أسمع صوت الزعيم من الشاشات سوف ننتصر تكورت روحي وانكمشت فطالما أبناء الفقراء هم الشهداء وهم الضحية وهم من يعيشون في دائرة العوز والحرمان. شغلني حال أبي كثيرا ينفخ دخان سجارته بقلق يمجها بين شفتيه شارد الذهن يمد يديه لجيبه يخرج منها عملة نقدية واحده. يتنهد يتحسر يرجعها لجيبه ينظر للناس يهز برأسه ويتمتم بكلمات تركتني وحيدا:
- ياقرة عيني حتى مصاريف عزائك لٱ أمتلكها.
روحي التي تئن تحلق في مدارها تختنق وهزة الصدى والعويل تتصاعد كل يوم، ودمي لٱ يزال ساخنا يرفض أن يجف
أنا والوطن شهيدان
على حواف النهر نُحتضر .
حيدر الفتلاوي ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق