قصة قصيرة
وداع بارد
استطاع أن يخترق الشّارع الطّويل ببطء رغم ازدحامه هذه الصّبيحة الباردة من أواخر شهر كانون الثّاني.
ابتاع جريدته المفضّلة ككلّ يوم..التهم العناوين مع قهوة الصّباح داخل المقهى العتيق و في مكانه المعهود، لا يستطيع أن يستغني عن عبقها منذ أن نبت شعر ذقنه وشاربه؛ إنّها توقّف سياط الآلام الّتي تنتابه من حين لآخر، فلا يقدر أن يؤخّرها عن موعدها.
مرّ شريط الذّكريات أمام عينيه مرّ السّحاب:
-بالأمس كنت حرّا أتنقّل بين أحضان الطّفولة الدّافئة، أعبّ من مياهها العذبة، أسبح في فضائها اللاّمتناهي، متفرّسا في القصور السّامقة والطّبيعة الخلّابة في مدينة الغيوم السّحرية الهائمة في ملاذّ الحياة السّرمديّة، الموشّحة برداء البراءة المخمليّ.
عضّ على عقب سجارته،أخذ منها نفسا عميقا، زمّ شفتيه القرمزيتين..شكّل دوائر بخيوط الدّخان الزّرقاء..راح محدّقا لها وهيّ تتابع نفسها ثمّ تضمحلّ وتتلاشى.نظرات..آهات..زفير..تأفّف.همس ونفسه المكبّلة بأصفاد اليأس والملل من هذه الحياة البائسة:
-لقد تمسّكت بثوبك الرّجراج، و همت وراءك كفتى مدلّل، يلاحق طيف أمّه متناسيّا مابه، محدّقا إلى نور وجهها الفاتن، مغازلا أطياف أشباح مافتئت تراوده، مرفرفة في أعماق أحاسيسه الكامنة منذ أمد طويل.
أنهى تصوّراته مع آخر رشفة من كأسه وآخر نفس من سجارته.
انطلق متهاديا ومعطفه الباهت والّذي ملّ صحبته..راح محدّقا في الواجهات المضيئة بألوان زاهية وعبارات رائجة لهدايا رأس السّنة.
تسمّر كاهله المثقل بأعباء الأيام الخوالي أمام واجهة سلبت ناظره الضّعيف، المحوّط بهالات سوداء لزمن صعب على العطّار ترقيعه؛ انعكست صورته مع جملة تتلألأ بألوان الطّيف المبهرجة بخطّ عريض ملفت وملوّحة ببريقها للقريب والبعيد"Bonne Année"خاطبها:
-كلّ مرّة أودّعك و أوجاعي المهرقة تحت قدميك لأحتفل بقدوم جديد يومك وألثم شفاهك المسمومة بطعم الياسمين المعبّق.
هل تذكرين ذات مرّة وقد استرجعت قوايّ، و كسّرت قيودا حزّت قدميّ، لأستريح بعدها وتزفّ روحي إلى أحضان ابتهاجك وتمرح مع طقوس ألعابك النّارية ورنين أجراسك وشماريخك المجنونة..!؟
هزّته رعشة خفيفة..ترك مكانه متثاقلا..غطّى رأسه بالجريدة محتميا من رذاذ خفيف.
تلاحقت أنفاسه وخفقان قلبه مع الشّارع الطّويل المحفوف بأشجار السّرو ذات الإخضرار الأبديّ والشّموخ السّامق.جلس على مقعد معدنيّ..هدأت أنفاسه رفع رأسه إليها..هزّ حاجبيه..امتدّت أنامله إلى شعر رأسه الأشيب..حكّة أخمدها،تساءل لحظتها:
-لقد كانت هذه الأشجارقديما رمزا للمدافن والمقابر! فمن المفروض أن تعوّض بأشجارالكرز"ساكورا"فهي اشجار مميّزة بلون خشبها البنّيّ المحمّر.واوراقها الخضراء الدّاكنة والّتي تتحوّل إلى اللّون البرتقالي الجميل في فصل الخريف،أمّا في فصل الرّبيع فهي تبهج الرّوح وتفرحها بلون أزهارها الورديّة ذات الرّائحة العطريّة والّتي تزيد النّفس سرورا وانشراحا؛ فمن الأحسن أن تعوّض مكان هذه الأشجار وتحلّ محلّها كأشجارا للزّينة.
تنهّد بعمق ثمّ واصل حديثه النّفسي:
-أنا مازلت محافظا على شجرتي"ساكورا"في حديقة بيتي،هي نائمة الآن.
طائر اليمام المختّم الرّقبة تموقع على رأس الشّجرة وأخذ"ينوح"مزهوّا بصوته البشع الأكثر فظاظة.
امتعض قليلا لهذا الحظّ النّحس لهذا اليوم:
-"إلى أين تأخذيني أيّتها النّفس الزّكيّة..؟!"
جاءه الردّ سريعا وهو ممسك رأسه بكلتي يديه.
-إلى طريق وعرة المسالك..مدمية الأقدام..الهابطة بروحك نحو الأعماق السٌحيقة.
تملّكه هلع شديد وهو على وشك استقبال عامه الجديد؛ الّذي سيطبع على جبينه قبلة عميقة باردة خرساء.
الأديب
عبد الستار عمورة الجزائر