عشاء أمل دنقل
بقلم/ أحمد عيسى
هذه محاولة لملامسة معاني قصيدة “العشاء” للشاعر الراحل أمل دنقل؛ نتجشم خلالها التعرف على تخومها، وعْرها وكثيفها، وذلك بشيء من التأمل والقراءة المتعمقة لعالم دنقل الرحب في معانيه، المكتنز في كلماته ومبانيه، وهي إحدى روائعه قليلة المبنى، مُلغزة المعنى، مُقلَّصة المتن، مُحكَمة النظم.
ويبدو أنه كما كانت حياة الشاعر قصيرة ممتلئة بالأحداث، مُفعمة بالعاطفة والأحاسيس، فقد جاءت هذه القصيدة ومضة كحياته، معدودة الكلمات كسنوات عمره، ولَّادة سخاء في مراميها ومعانيها كتراثه المتنبئ المنير الذي أثرى به وأضاء جنبات المكتبة الشعرية.
يلوح لنا في هذه المأدبة التي اجتمع على مائدتها مجموعة من المرتزقة النفعيين أو ثُلّة من الطغاة والمتجبرين ممن يقتاتون على دماء الشعوب، ويملؤون البطون من عرق الفقراء المكافحين، ويُشبعون أنفسهم من ثمرات وحصاد ما زرعه الآخرون.. يلوح أن الشاعر نجح في التسلل إلى هذه المأدبة ليلاً حيث اندس وسط المدعوين، لائذاً بظلام الليل، وستر المساء، مُغيّراً قليلاً من سمته وزيه؛ ليتوارى خلفهما يؤازره في ذلك لُكنة ورَطانة تتسقان وأرباب العَشاء من الحاضرين، هكذا نفهم من لازم الأبيات لا من بوحها وتصريحها.
وقد يمَّم الشاعر وجهته صوب حفل العشاء المسائي، ويبدو من تعبير الشاعر أنه فاجأ الحفل والحضور على غير توقع منهم لمجيئه، ولا رغبة منهم في حضوره؛ لذا لم يمنحوه إلا برهة من المطالعة، ولم ينعموا عليه إلا برمقة حاسرة من لِئام خائنين أعاروها لحُرٍّ أبيٍّ باغتهم فانقلبوا أمامه خزايا خاسئين!
ولم يُجب واحد من هؤلاء الحضور تحية الشاعر منشغلين بطعامهم ومَرَقِهم، حيث كانت تجول أيديهم وملاعقهم في صحون الحَسَاء جيئة وذَهاباً.
ولقد تركنا الشاعر لنحدس هل الداعي للوليمة رجل بَخيل جاء بمرق دون لحم، وأحضر ملاعقَ صغيرة وضن على الحفل بالكبيرة.. أم أنه بروتوكول عِلية القوم في مآكلهم ومآدبهم وحفلاتهم؟!
أو أن صغار الملاعق رمز وإشارة إلى التمتع بالمطعوم فهم يأكلون أكلَ متعةٍ ولذّة لا أكل جوع ومسغبة.
كما تركنا الشاعر حيارى لنخمن هل كان عدم ردهم تحيته بتحية وسلامه بسلام مبعثه الازدراء والنكران؟ أم هو الانشغال بالحَسَاء والاندماج مع الطعام، لا جَرَمَ أنها عُصبة الشر التي لا تُلاطف ولا تسالم ولا تجنح لداعي السلام.
يقول أمل:
قصدتهم في موعد العشاء
تطالعوا لي برهة
ولم يرد واحد منهم تحية المساء!
……وعادت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة
في طبق الحَسَاء
أفصح الشاعر قليلاً عن قضيته الملغزة، كاشفاً عن بعض كلماتها الموحية؛ إذ إنه تأمل إناء الطعام فوجد فيه عصارة دم الفقراء؛ وهو واحد منهم، فقد ألْفَى في الوِعَاء حقاً مهضوماً، وعَرَقاً مُستباحاً، ومظالمَ حمراء؛ ما دعاه لأن يصرخ قائلاً:
ويلكم أيها الجشعون الظالمون إنكم تحتسون وتشربون دمي وعَرَقي، وتأكلون وتمضغون لحمي وعَصَبي، بل وتسحقون كِياني وعَظْمي.
أفيقوا من غيكم، وأقلعوا عن جُرمكم، إنه وِعاء دماء الفقراء، إنه دمي فكفوا وارعووا.. إلا أن الآكلين لم يحفلوا بهتافه، ولم يهتموا لاستغاثته، ولم يأبهوا لندائه وصراخه!!
وطفِقَت أيديهم تناوش صغارَ الملاعق، واستمرت الشفاه تتلمظ مستمتعة بمذاق الدماء المسفوحة حراماً، والمغصوبة عَنْوةً وقسراً وقهراً.
يقول دنقل:
نظرت في الوِعَـــاء:
هتفت: ((ويحكم ….دمي
هذا دمي….. فانتبهوا))
…….. لم يــأبهوا!
وظلّت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة وظلت الشفاه تلعق الدماء!