الجبل العالي
الحلقة 1
8.12.2020
بطل قصتنا هذه يدعى كمال، شاب في السابعة والعشرين من عمره، خريج كلية التاريخ في جامعة دمشق، كان يتأمل الحصول على وظيفة مدرس في بلدته النبك، بريف دمشق، حينها لم يكن يوجد شاغراً. لذلك أخذ يساعد والده في الزراعة منتظراً فرصة عمل...
كمال هوايته ركوب الدراجة الهوائية، معللا الأمر بقوله: دراجتي تشعرني بالفرح، لأنها توحدني مع الطبيعة، أمتطيها وأعبر البساتين عليها، أتنسم الهواء النقي، وأتنشق أريج الزهور وخاصة في الربيع، عندما يكون الطقس جميلاً. وتزهر أشجار المشمش.
ذلك اليوم، كان الطقس دافئاً مشمساً، قرر الوصول إلى مغارة قرأ عنها أثناء دراسته الجامعية، كانت يوماَ مسكناً للإنسان القديم في مدينة يبرود القريبة من مدينة النبك. كان يود زيارتها منذ كان طالباً في الجامعة، واليوم حانت له الفرصة...
تفاجأ بمجموعة شباب وصبايا يبدو إنهم سواح أجانب يزورون المغارة...
كمال يتكلم الإنكليزية بصعوبة، لكنها كانت كافية للتواصل مع السواح الذين يتكلمون الإنكليزية كلغة ثانية. عرف بأنهم وافدين من الدانمارك...
أفرحهم جداً كون كمال خريج كلية التاريخ...
لأنهم هم أيضاً يدرسون التاريخ، وسوف يقدمون مشروع تخرجهم في جامعة كوبنهاغن عاصمة بلادهم، عن بلاد الشام...
قالوا إلى كمال جئنا نبحث عن جذور الانسان القديم على أرض التاريخ، هنا في بلاد الشام، إنسان قبل التاريخ، وهذه المغارة هي إحدى المغارات التي قطنها ذاك الإنسان...
تحادثوا كثيراً، وأفرحتهم ثقافة كمال الشاملة، والدقيقة، ووجدوه شاباً لطيفاً ولبقاً...
وعندما عرفوا إنه من النبك، فرحوا وقالوا له بأنهم عازمون على زيارة دير مار موسى الحبشي في النبك، لأنه واحد من أقدم الأديرة المسيحية في العالم.
هم كانوا ستة اشخاص شابين وأربع صبايا...
استضاف كمال المجموعة ذلك اليوم في منزل أهله في النبك، وأقام لهم حفل عشاء، ورحبت أم كمال والعائلة في الأجانب أي ترحيب، وأحيوا سهرة لطيفة حضرها أصدقاء كمال والجيران. وشعر الأجانب بفرح كون الجميع يحاولون اسعادهم، الجميع لا يعرفون لفة اجنبية صحيحة لكنهم يتكلمون ويحدثون الأجانب، والدانماركيون يضحكون...
في اليوم التالي أخذ كمال السواح وأراهم ما أشاده الدانماركيون في النبك في الأربعينات من القرن الماضي ضمن برنامج ثقافي متبادل بين سورية والدانمارك. أراهم الكنيسة الإنجيلية، والمستشفى الدانماركي اللتان لا تزالان عامرتين إلى اليوم، ومدرسة تهدمت لكن لا يزال تلاميذها يفتخرون بأنهم تعلموا في تلك المدرسة.
بعدها أخذ كمال الطلاب الدانماركيين إلى دير مار موسى الحبشي والذي يعود تاريخه إلى ما قبل القرن الرابع... الكائن على جبل شرقي النبك، يسمونه (جبل المدخن).
فرح الطلبة عندما وجدوا أنفسهم يزورون واحداً من أقدم الأديرة، والذي يحتوي كنيسة من أقدم كنائس العالم... كذلك أسعدهم كثيراً بان الدير يقدم لهم الإقامة النظيفة والمريحة مع الطعام الشهي، وكل ذلك مجاناً...
فرحتهم كانت كبيرة وهم ينهلون من المعلومات الصحيحة والدقيقة عن الدير وغيره من الأديرة والموثقة بالصور والمخطوطات والكتب التاريخية...
الطلبة كانوا يتنقلون في منطقة القلمون، يزورون الأماكن التاريخية المقرر زيارته ضمن رحلتهم ويعودون في المساء إلى الدير في النبك، زاروا عدداً من الاديرة الموجودة في المنطقة، ومنها دير مار اليان في القريتين، ودير مار يعقوب المقطع في قارة، والكنيسة التاريخية في يبرود، وكنائس معلولا الغارقة في القدم، وخاصة مغارة القديسة تقلا التي عاصرت مار بولس الرسول، ومار تقلا هذه تعتبرها الكنيسة معادلة للرسل، عاشت بتلك المغارة، التي أضحت اليوم مزاراً مشهورا في العالم. كما زاروا أديرة عديدة أخرى وأغلبها يعود إلى البدايات المسيحية في القرون الأولى الميلادية، كذلك عاينوا أديرة وكنائس في صيدنايا والمعرة، وأيضاً في دمشق أقدم مدينة بالتاريخ... وهذه جميعها من الأديرة والكنائس الأولى في العالم وهي قريبة بالمكان من بعضها البعض مما يدل على كثافة الوجود المسيحي في هذه المناطق في القرون الأولى الميلادية...
كان الطلبة السواح يعودون إلى الدير في النبك، ويدونون المعلومات التي اكتسبوها من أرض الحقائق، أرض الجذور السورية قبل التاريخ، وبعد التاريخ.
كمال كان يرافقهم في أغلب رحلاتهم، لقد جعل من نفسه دليلاً لهم وهم كانوا بغاية السعادة مع هذا الدليل المثقف اللطيف والمهذب، وقالوا هذه أجمل رحلة استكشافية يمكن أن يقوم فيها طلبة.
بعد أن استكملوا دراستهم في القلمون ودمشق، قرروا متابعة الرحلة إلى الأردن وفلسطين.
حمل الطلبة حقائبهم على ظهورهم، وتم الوداع الحار بينهم وبين الرهبان، ونزلوا من الجبل العالي على الدرج الحجري الطويل ليصلوا إلى سيارتهم في الوادي...
نينا واحدة من صبايا المجموعة، صبية مرحة، طيبة جداً، كانت الدموع تملأ عينيها وهي مغادرة الدير الذي أعجبها لدرجة العشق.
لكن الذي حدث عندما كانت نينا نازلة الدرج الصعب، وهي تعاود النظر إلى الخلف وتلتقط الصور للدير... على حين غرة، تفركشت بحجر، وقعت وتدحرجت عدة درجات، وعجزت على النهوض، وهي تصرخ من الألم...ساعدها كمال ورفاقها وحملوها إلى السيارة وذهب الجميع إلى مشفى القلمون. (مستشفى الدانماركي سابقاً). أظهرت صور الاشعة كسوراً في ساقها مما توجب اجراء عمل جراحي لها، وحبسوا ساقها بقالب من الجبصين الصلب.
قال الطبيب يجب أن ترتاح لمدة شهر على الأقل بدون حراك.
أصاب المجموعة الهستيريا، كيف سيتركون نينا في النبك ووقتهم لا يسمح لهم، وعليهم إنجاز مهمتهم الدراسية، ووقت الرحلة كاد أن ينفذ ومن الذي سيبقى معها في سورية، ألف سؤال وسؤال، وبدون جواب واحد.
كاتب القصة: عبده داود
الى اللقاء في الحلقة الثانية 2