رحلة سحر الأولى
2
جاء فحص المقابلة، تأنقت سحر، وارتدت أجمل حللها… وأوجدت سبباً لخروجها من المنزل، وذهبت لشركة الطيران… كانت خائفة ألا تنجح، لذلك كانت تصلي في سريرتها، حتى تجتاز الامتحان بنجاح ويتحقق حلمها…
الفحص كان قسمين، قسماً كتابياً، وقسماً شفهياً…
الفحص الكتابي ثقافي مؤتمت (نعم، أو، لا). تصادفت الأسئلة حول معلومات في السياحة والجغرافيا وديموغرافيا الشعوب، تلك المواضيع هي حبيبة قلبها، لأن مثل تلك المعلومات السياحية كانت هوايتها، كانت تقضي أوقاتاً في مكتبة الجامعة تبحث في الأطالس والكتب الجغرافية وتستمتع بقراءتها.
أدهشت اجوبتها الصحيحة اللجنة الفاحصة، وقد استحقت تقريباً كامل العلامات في ذلك الفحص الصعب… مما أثار اعجاب أعضاء اللجنة جميعاً…
كذلك في فحص المقابلة، انبهرت المجموعة الفاحصة بجمال سحر، وقالوا هذا الجمال يمثل الجمال السوري الأصيل… إضافة إلى طلتها الانثوية الساحرة، ولباسها الأنيق والبسيط…إنها واحدة من الملكات السوريات حفيدات زنوبيا…
أخذت اللجنة تسألها معلومات متنوعة، فهموا بأن طريقة تفكيرها منطقية، ونطقها سليم…واعجبوا بثقتها بذاتها، ومن أهم الأمور المطلوبة في فحص المقابلة هي اللغات الأجنبية، وسحر لغتها قوية في الفرنسية والإنكليزية…وهذا ساعدها على النجاح بامتياز…
هنأتها اللجنة الفاحصة وقالوا لها: أهلا بك معنا، قريباً سنتصل معك حتى تطيري مع زميلاتك المضيفات… وهن سيدربنك مباشرة على متن الطائرة…
جاءت سحر إلى المنزل ذلك اليوم والفرحة تملأ قلبها، وغبطة النجاح تملأ كيانها… وتصورت بانها ستفجر البشارة المدوية التي ستفرح قلب أهلها…
دخلت البيت وهي ترتل بفرح، هذا هو اليوم الذي صنعه الرب…وهذا اليوم الذي أضحى عيد مولدي… وأخيرا، أخيراً وجدت ضالتي، التي كانت غائبة عني، وأنا لا أعرفها، ولا ماذا تكون…لكنها هي التي عرفت طريقها إلى بيتي…
قالت أمها ماذا هناك يا ابنتي؟ قالت كنت أعلم ان فرصتي ستأتي، وكن
ت على يقين بأن تضرعاتي للعذراء ستساعدني في إيجاد حلمي، قبل ذلك كنت هائمة في الضباب، أبحث عن هدف، لا أعرف ماهيته، ولا اجد سوى السراب… الآن جاء دوري، ووظيفتي هي التي دخلت داري، دون استئذان مني…وهي التي أرتني ذاتها بمجلة كانت ملقاة امامي على الطاولة، وأنا احتسي قهوتي بهدوء وسكينة…
نظر إليها أهلها باستغراب، وانتظروا ابنتهم أن تبشرهم أخباراً تسعدهم… سألوها ماذا هناك يا سحر؟ قولي لنا، هيا شوقتينا، هيا أحكي افرحينا معك…ما سبب هذه المقدمات الطويلة، ماذا هناك؟
وأخيراً باحت سحر بسرها، وليتها لم تفعل… أحدثت زلزالاً، وفجرت براكيناً، وتصاعدت الحمم النارية لتحرق المنزل وأهل البيت…
احمرت عيون أهلها غيظاً واستنكاراً، وجن جنونهما، وتعالى صراخهما، حتى وصل إلى أقصى درجات سلالم التوتر…وهما يسألانها ويعيدون السؤال، كأنهما لا يريدان أن يصدقا الذي سمعاه: أتقولين مضيفة طيران؟ أتعملين مضيفة طائرة؟ أهذه هي المهنة الهزيلة التي تبحثين عنها منذ سنتين، هل أنت تبحثين عن الضياع في شوارع العالم… أنت سحر المثقفة العاقلة تعملين خادمة في طائرة؟ هل استعمر عقلك الجنون، وهل فقدت صوابك؟ كيف يخطر ببالك مثل هذه الحماقات، أهذه تسمينها وظيفة؟ هذا عمل لمن ليس له عمل…لا شك مصيبة حلت علينا، هل تريدين أن تمرغي رأسنا في التراب؟ سنصبح مضحكة وسخرية للناس، أبوك عنوان الاستقامة والقداسة والأخلاق، واليوم حضرتك تأتين حتى تبهدلينا بين أقاربنا ومعارفنا… سيشمتون فينا، وسيسخرون منا، سيقولون هذه نتيجة تربيتكم لابنتكم المدللة؟
قال أبو سحر: هذا هو المستحيل، أنا لن أوافق على هذا الأمر طالما أنا على قيد الحياة… أي عمل تختارينه سأوافق عليه، لكن هذا العمل بالذات، مستحيل أن أرضاه لك، مستحيل، مستحيل، أتفهمين؟
هي تعرف أباها عندما يقول كلمته، لن يتراجع عنها مهما حاول الجميع اقناعه، نعم يعني نعم، لا يعني لا، وأنتهى الأمر. نقطة على السطر. وينتهي الحوار نهائياً…
قالت أمها: لن أكون أنا أمك، ولن تكوني أنت ابنتي، إذا عملت في هذا الجنان، الذي تسمينه طيران، ربما لو كنتِ مضيفة أرضية، كانت نصف مصيبة، أما مضيفة جوية هذا مستحيل، لا وألف لا… سيصبح نهارك ليلاً، وليلك نهاراً، عندما تطيرين في الجو لن تغفو اجفاننا حتى تعودين، وعندما تعودين نخاف أن تطيري ثانية…لكن كيف تتغاضين عن وظيفة مدرسة بمدرستك القديمة العظيمة بجانب بيتك؟ أمن أجل عمل مسخرة؟ الكثيرون يعملون ألف واسطة للعمل في مدرسة الراهبات هذه، ولا يطالونها…أنت هنا ستكونين معززة مكرمة في عملك، الراهبات يحبونك ويحترمونك وانت بجانب دارك…
كثر الكلام، وتعالت الصرخات حتى انهارت سحر، وتساقطت دموعها، وظنت نفسها هي أحد أسباب الانهيار الأخلاقي في البلد…أو ربما ارتكبت من الذنوب والخطايا التي لا يغفرها الله، ولا المجتمع.
هدى اختها، لم تنطق بحرف واحد، لكن عندما دخلتا إلى غرفتهما، قالت هدى: لا تهتمي يا أختي أنا معك، لا تبالي بحديثهما، أنا أتمنى أن أعمل بمثل هذه الوظيفة، إنها متعة حقيقية، ستكونين وجه سورية السياحي المشرق، وستعبرين عن الأصالة العربية، نحن لسنا مضطرين أن نعيش بعقلية أهلنا القديمة، نحن لنا حياتنا، وهم كانت لهم حياتهم…
سحر شعرت ببعض الارتياح كونها لم ترتكب من الذنوب التي لا تغتفر…ومع ذلك قررت أن تتناسى الأمر، حتى لا تزيد في ثورة أهلها الغاضبة، ربما يصيبهم مكروه ما لا سمح الله، إذا استمرت هي على موقفها، وعندها لن تسامح نفسها اطلاقاً…
تناست الطيران، وقبلت الرضوخ لأهلها، ورضيت العمل في التدريس مرغمة…كما قبلت من قبل أن تدرس الأدب الفرنسي عوضاً عن الجغرافيا…
أمضت الليل باكية، وفي الصباح كانت تتصنع الابتسامة لكنها ابتسامة باهتة جامدة شبه معدومة، وهي تصنع القهوة لوالديها كعادتها وتحضرها لهم وتقول لهما صباح الخير…
مرت ايام، فجأة رن موبايلها، قالوا لها: عليك الحضور غداً حتى تطيري مع مضيفات زميلاتك، وتتعرفي على طبيعة العمل بصفتك مضيفة مستجدة…
أجهشت بالبكاء، وإذا هي لم تلتحق بشركة الطيران، ستفقد عملاً شعرت بانه سعادتها، وحلم حياتها الذي تتمناه، والذي انتظرته طويلاً مستعينة بدعائها لسكان السماء…
قالت لها أختها، اذهبي أختي ولا تخافي، إنها حياتك، لا يتوجب علينا أن نعيش بعقليتهم… ونلبس جلبابهم، أذهبي وأنا سأتولى اقناعهم… لنا الحق أن نختار حياتنا، كما نحن نريدها، وليس كما هم يريدونها… عليهم أن يقتنعوا بأن أحلامنا حق لنا…
هم علمونا مشكورين، وانتهى دورهم، نحن تخرجنا في الجامعات، وعليهم أن يقتنعوا بأننا لسنا بعد اطفالاً، والآن جاء دورنا لنعيش حياتنا، كما نحن نريدها ونرغبها. حياتنا ملكنا نحن، ولا يحق لأهلنا أن يجبرونا المتابعة على خطاهم، وكأنهم هم على صواب، ولا يوجد صواب غير الذي يقررونه هم…كان والدينا معلم ومعلمة ويريداننا أن نعمل مثلهما، علينا أن نتوارث المهنة التي هم توارثوها من آبائهم…
الحداد يريد ابنه حداداً، والخياط يريد ابنه خياطاَ، والنجار يريد ابنه نجاراً… عقليات مريضة مرفوضة كلياً…
اقنعت هدى أختها، بعدم الرضوخ لضغط أهلها…ومتابعة مشوار حلمها…
أخبرت سحر أهلها بانها ذاهبة في رحلة قريبة مع زميلاتها، وهي التي لم تكذب على والديها يوماً… أوصلتها هدى إلى المطار… قبلتها وودعتها وتمنت لها سفراً مشرقاً ميموناً…
طارت سحر محلقة في الفضاء، لكن فرحتها مجروحة في الصميم، وقلبها حزين لدرجة التعاسة…ماذا سيحل باهلها عندما يعلمون بأن ابنتهم كسرت كلامهم، وركبت رأسها وطارت وهي الآن فوق سحب العالم…
تأخرت سحر ذلك المساء على غير العادة، وأهلها كانوا مستغربين، لماذا تأخرت سحر هكذا؟
كانت هدى تقول الرحلة في منطقة لا يوجد فيها تغطية للموبايل…
وعندما طال الانتظار، وتكرر سؤال الأهل عدة مرات، وصارا مشغولين البال جداً؟
قالت هدى لا بد أن أخبركم الحقيقة، ولا يمكن للأمر أن يبقى سراً…
صاحت الأم: ماذا حل بأختك؟ أين هي؟
وصاح الأب: اين أختك؟ أين سحر؟
قالت هدى، لا تخافوا، لا تخافوا، ها هي قد أرسلت لكم رسالة، تقول فيها: أرجوكم يا أهلي سامحوني…
صاح الأب تكلمي يا هدى ماذا هناك؟