صريع الجسد
بقلم/ أحمد عيسى
يبدو أنه ستبقى هناك فجوة فكرية وسلوكية دائمة بين جيلي الآباء والأبناء، ولعل الأسنّ عمراً سيظل أكثر رَويَّة واتئاداً، والأصغر سِناً سيستمر أكثر حماساً واتِّقَاداً.
تُرى ماذا في رحم الأحداث من صراعٍ بين حكمة وخبرة الآباء الراسخة، وتحدي وثقة الأبناء الشَّمُوس الجامحة؟
ربما تُجيب سطور هذه الأقصوصة عن هذا التساؤل من خلال خشبة مسرح حب الجسد ومصرع عاشق الجِسْم والصُّور..
وإلى قصتنا..
شهدت أَرْوِقَة "جامعة عين شمس" في فترة السبعينيات قصة حب رومانسية، كان بطلاها "ماجد" و"ماجدة" الطالبيْن بكلية التجارة، حيث جمع العاشقيْن رواقُ المحاضرات، وقاعاتُ المكتبات، والحجراتُ العملية للتطبيقات، ثم ما لبث الحبيبان أن ضمتهما بعد ذلك حدائقُ ومنتزهات.
كان عِشق البطلين وليدَ تأثرٍ بالأعمال الفنية الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية، وأذكى هذا الحُبّ نَزَق الشباب وعنفوانه، وكعادة المحبين العاشقين لم يرَ البطلان في حبهما حَرَجاً أو غَضاضة، ولا في ارتباطهما خطأً ولا غَرابَة، وذلك بعد خطوات مألوفة، وطريقٍ معروفة، سلكها قبلهما العاشقون، ولا يزال يسلكها صرعى الهوى وضحايا صور الجِسْم والجسد من: نظرةٍ، فابتسامة، فسلام، فكلام، فموعد، فلقاء..
ماجد: أبي، أرى الدنيا خضرة حلوة.
والده: كن جميلاً ترى الوُجود جميلاً.
ماجد: المحبُّ يرى كل شيء جميلاً.
والده: نعم.
فعين الرضا عن كل عيب كليلة.. وعين السخط تُبدي المساويا
ماجد: فهمتُ الآن لِمَ كان العندليب الأسمر مرهف الحِسّ حين أحبَّ فغرَّد مُوفقاً:
"يــا عيني يـا قلبــي جـرى إيـــــــه ** الـدنيــا احـلـوت كــده ليــــــــــه
يــا اصحابـي يا اهلي يا جيرانــي ** أنـا عـايـز اخـدكـو بـأحضانــــــــي"
والده: بل كان مُحقاً وأكثر توفيقاً حين أنشد:
"وحياة قلبي وأفراحه ** وهناه في مساه وصباحه
ملقيت فرحان في الدنيا ** زي الفرحان بنجاحه"
ماجد: ماذا تعني يا أبي؟
والده: أعني أن الحُب ينبغي أن يتخلل مراحل العمر كلها، فأولاً: حب الوالدين والأسرة، ثم حب الدراسة والزملاء والعمل، ثم حب الزوجة والأولاد والجيران والمجتمع والوطن، ثم حب الكون والعالم أجمع، ومن قبلِ هذا ومن بعدِه وأرفع منه شأواً وأعز شأناً حب الله ورسله ودينه.
مخطئ يا بُني، من يُقدِّم حب مرحلة على مرحلة، وهو إنْ فعل كان كمن يُحبُّ أن يُنجِب قبل أن يتزوج، أو كمن يَوَدُّ أن يتزوج قبل أن يدرُس ويمتهن ويعمل.
فَهِم "ماجدُ " مراميَ أبيه، واعتبرها عِظة للانكباب على دراسته ثم عمله، وعدم الالتفات عنهما بداعية حبٍّ أو عشقٍ وهُيام، إلا أنه لم يُقلع عن حب "ماجدة"، ولا عن مواصلة الغرام بها، فكان يتحيَّن الفرصَ للخروج معها والظفر بلقائها.
ماجد: أبي، سأتخرَّج هذا العام إن شاء الله.
والده: موفق دائماً يا بُني.
ماجد: ألم يأنِ لمحبٍ مُعَنّى أن يبوح بسره؟
والده: الحبُّ يشفُّ دائماً عن أصحابه.
ماجد: أريد لحبي أن تباركَهُ في النور.
والده: حَسَنٌ.. فالنور يبدد كل ظلام.
ماجد: منذ أربع سنوات أنتظر هذه اللحظات.
والده: ولِمَ عَلِقْتَ يا بُنيّ فعانيتَ قبلَ الأوان بالغرام؟!
ماجد: لم تكن معاناة بل هو صادق الحب والهُيَام.
والده: أهي زميلة دراستك عاماً بعام؟
ماجد: نعم، بالضبط.. والتمام.
والده: أراها أصلح لمن بَذَّ عُمركَ بسنينَ وأعوام.
ماجد: ارتبطنا واتفقنا على الخِطْبة ثم الزواج.
والده: بُنيَّ، حدثتني كثيراً عن صورةٍ وشكلٍ وجَسَد، فأين حديث الدِّين والروح والنَّفْس والكفاءة والنَّسَب؟
ماجد: إنها حُبي وقلبي.. "حياتي دُنيتي عُمري"!
والده: تعجَّلتَ وبالصورة تعلَّقَت وفي أَتُون الهَوى أرديتَ نفسك بعد إذ هَوَيْتَ.
ماجد: إنها انتظرتني لأعوام، بَنَتْ معي صرح الهوى، وتربعتْ على عرش قلبي بين الحشا والجَوَى.
والده: إنما تُبْتَغَى المصاهرة للدِّين والمال والجَمال والنَّسب والحسب، فاظفر بذات الدين تغنم وتسعد.
ماجد: بالحبِّ سنبتني مستقبلنا، وبه سنُحيل حياتنا لسعادةٍ وأفراح.
والده: يا بُني، الواقع أنك لن تعيش أيامك كما تظن: "ضحك ولعب وجد وحب، ولا أحلامك بالروح والعين والقلب ".
بل ستحياها بكثير عملٍ، وعظيم كَدّ، وقليل ضحك ولعب، وأحلامك ستحققها بالأمل والسعي الدائب، والصبر والمثابرة والجِّد.
لم يَنْصَعْ ماجد لنُصح أبيه، ولم يأبه به، وصمَّم على إنفاذ حُبِّه، فتزوج بـ "ماجدة" خلال عامين أو ثلاثة ومضى في هواه وعِشقه.
وبعد عشر سنوات دار هذا الحوار بين الزوجين:
ماجد: ما لوجهكِ قد شَحُب، وجفونك قد تغضَّنت، أين غَجَريُّ شَعْرك المسترسل، أين وُرود وَجْنَتَيْكِ النافرتَين الممتلئتين، وعُنَّاب شَفَتَيكِ القِرْمِزيتين؟
كنتِ آسرةً ملء السمع مني والبصر، فإذا بشُعيرات بِيض في رأسك قد لاحت تُنذر باشتعال شَيْبٍ وكِبَر، وإذا ببعض ضروسك قد زايل مكان فَكَّكِ وفَمَك.
قَدُّك كان ممشوقاً مائساً، يختال كغُصن بانٍ متبختر، ووجهكِ كان طَلْقاً ناضراً، فإذا بك واجمة شاردة عابسة، منطفئة بَاهتة.
أين قَسَامَتُك وَوَسَامَتُك، أين الغَضَاضةُ والبَضَاضةُ؟ حتى بياضُ بَشَرَتِك أضحى كثلجٍ مُنْصَهِر!
ماجدة: بل أين سعيُك وعمُلك، وحلمُك وأملُك، وطموحُك ووعدُك؟
كنتُ أرجو فيك الدفء والسَّند، فإذا بك عبءٌ كعبء الوَلَد، فلا خِبرة ولا حكمة لك، ولا رَويَّة ولا بُعدَ نَظَر!
لم يبقَ لي منك إلا صورة رَعْنَاء من لحمٍ ودم، ضربتْها أطنابُ التهور والنَّزَق، ما بالُك تُطلقُ منك البَصَر، وتشتهي الغِيدَ الأُخَر، كأني لم أعُد أُنثى بعد الحمل ووضع الوَلَد، ألم تَدْرِ يا رجل أن النساء سرعان ما يبدو عليهن النضجُ ثُمَّ الكِبَر!
حينها تذكر "ماجد" نصيحة والده مُلخَّصَةً في بيتين من نونية أبي الفتح البستي:
يا خادمَ الجسمِ كمْ تشقَـى بِخدمته * * * أتطلبُ الربحَ فيمـا فيـهِ خُسْرانُ؟
أقْبِل على النفسِ واستكمل فضائلَها * * * فأنـت بالنَّفْسِ لا بالجِسمِ إنسـانُ