قصة قصيرة
طباشر .....
شعره الرمادي يوحي بنبل أخلاقه، ويضفي نقاء على وجهه، أناقة بدلته التي تخفي تحت عنوانها حزن الدهر، رجل شامخ، نور عينيه يشع ألقاً في أفق التحدي، قادم من أغوار سنوات تلطخت بالقهر والاستبداد، رسمت التجاعيد على وجهه حكايات لم تحكَ بعد، تتخطى حدود الزمان والمكان، حزم أمتعته المملوءة بالحب والشوق ورحل إلى مدينة الجبايش لمباشرة عمله، ومنذ ذلك الحين وغيمة غبار الطباشير ترافقه، سواء على اللوح أو أصابع يده وثيابه.
أعوام قضاها في غرفة طين تتدلى من سقفها خيوط العنكبوت، محفورة على جدرانها دموع الأمطار، ترك فيها وسادة ضامرة وسريرا نحيلاً من القصب والبردي. وعلى مدار أعوام وأعوام راح ينتقل من مدينة إلى مدينة أخرى. تسلق الجبال، وشم من اعلى قممها رائحة العطور المدسوسة في أمتعة القوافل، تأمل خلالها العابرين كل مساء مثل رحالة، وضع وطنه في حقيبة صغيرة.
ارتشف رشفة من قهوته، مرٌ مذاقها كمرارة سنين عمره، فتح نوافذ الذاكرة لاشيء هادئ سوى صوت العاصفة مازال مستمراً يهز بعنف أوراق الذكريات، أراد ان يتنهد بارتياح لينفض كل الحزن الذي بداخله ويطفئ أتون الألم في روحه المنهكة، يمج سجارته ونظرات عينيه تشع في أفق التاريخ، كأنها تقرأ صفحات نالت منها نتانة الزمن الأغبر. يشعر بالدوار لكثرة الأوراق المتطايرة التي تتساقط على سطح مستنقع ذاكرته .
دقات قلبه تضرب أم رأسه بعنف، وهو يستمع للهاث أنفاسه، اعتمر خوذته وربط نطاقه، وهو يرتجف من شدة الخوف والفزع، صدره يعلو ويهبط، صار يتنفس بسرعة كلما تصاعد صوت صفير القنابل من معركة نهر جاسم لمعركة الفاو، يتنهد ويتأفف متسائلا متى تنتهي هذه الحرب اللعينة؟! وعاد بلهفة إلى جذوره وانتمائه الحقيقي، وقف على عتبة باب مدرسته يتأمل الطلاب في الحديقة كبتلات الورد المتلئلة بالحياة، أحس بالارتياح. ليتحمل كَلمـات تجرح مشاعره من الرفيق الذي يؤكد غطرسته وحقارته في كل موقف، كان يتأمله بازدراء ويهز برأسه موافقاً، واللامبالاة تغمر ملامحه، هو يعلم أن الوقوف في وجه الطغاة يعني الموت الأكيد، الصور تتراقص فوق مستنقع ذاكرته تعزف بداخله سمفونية الوجع، جبهته البيضاء جعدتها هموم السنين، رغم خشونته الظاهرة يحتفظ بين طياته قلباً نابضاً بالأبوة.
الحصار غرس أنيابه، و راح ينهش جسده، جاءه عنيفاً بكل هوله دفعة واحدة. سنين عجاف ضربت خلالها أطواق رهيبة، وكلما مرت سنة زاد الحصار قسوته، وارتفعت نسبة الشحة، وما إن تمض سنة حتى تأتي سنة أكثر عجفا من سابقتها، أكلت السنوات العجاف سنوات عمره السمان وتركته هيكلا، حتى احدودب ظهره من كثرة حمل أكياس الشلغم والبصل. أهدر ماء وجهه خلف عربة وسط زحمة السوق وبصوت خجول مصحوب بحسرة يمتد عمرها بقدر سنين حياته تخرج م̷ـــِْن أعماق الألم الذي بداخله (شلغم بنص دينار)، فيتلعثم ريقه ويكتم غيظه.
تلاشت الأحلام داخله، كالسراب تتقاذفه غمغمات أمواج الحيرة بين السياب والمعلقات واكياس الشلغم. حفر العوز والحرمان أخاديد على وجهه، وتغيرت ملامحه الريفية وبشرته الملونه بلون الأرض . حاول أن يرتاح من شدة الصدااع فضغط على الرسغ بإبهام يده. فطفت ورقة من اعماق قعر المستنقع
فيها صورة موجعة أثر ندباتها منقوش فوق تلافيف القلب، لا يمحوه تتالي الأيام والسنين، فدعوة زميلة المترف ڵـهٍ ولزملائه، جعلته يتمنى أن تبتلعه الأرض، لم ينس ذلك الموقف عندما كانت جواربه ممزقة، وأصابع قدميه تعلن التحرر من تلك القيود المهترئة، أمام حشد المدعوين تقرفص في جلسته، كلما عفص رجليه وطواهما، خرجت الأخرى معلنة العصيان.
قطرات العرق تتصبب على جبينه وكأن الجميع يرمقونه بنظراتهم، أخذ يستنشق الهواء المشبع بمواسم الوجع، وغرق في دوامة أفكاره المتصارعة حتى ابتلعه صمت رهي،
كانت الصورة الأخيرة وردية نوعا ما مؤطرة بإطار رمادي، تتناثرت عليها بقع سوداء. ارتشف رشفة من قهوته حك رأسه، شعر بالارتياح قليلاً من تبديل الوجوه،وبدأت بارقة أمل تلوح في الأفق، أمسك هاتفه واحتسب نقاط خدمته ،فتح نافذة التقديم لقطع الأراضي السكنية،إنها مطابقة لجميع الشروط ، سنوات الخدمة.
عدد الأطفال.. مسقط الرأس... السكن.. ضغط على زر الإرسال،
مبارك تمت عملية الإرسال بنجاح
انتشى فرحا، وقام بدعوة زوجته إلى العشاء، للاحتفال بهذه المناسبة في أحد الفنادق الفاخرة في لمدينة. اصطحبه النادل إلى طاولة بالقرب م̷ـــِْن النافذة، تشرف على كامل المدينة. كانت الأضواء تتلألأ مثل النجوم كل شيء هادئ.
هل ترين تلك الأضوء البعيدة، هناك سيكون حلم العمر؟
استرسل في حلمه، رن هاتفه،
أصابه الذهول واعتلى وجهه حزن شديد، واستدار نحو النافذة حتى
لا تلتقي عيناه بعين زوجته، فترى الخيبة التي اجتاحته. خرج يجرٌ خيباته، وزوجته خلفه تتعثر بخطواتها.
ذرات غبار الطباشير تتطاير في أفق السراب تحمل بين أوزارها لفحات موجعة م̷ـــِْن الذكريات، وزفرات متهدلة على كنف الوجع. أحلامه معلقة على مشانق الواقع تتدلى مهزومة.. مأسورة... مكبلة متكورة معلنة حدادها الأبدي.
حيدر الفتلاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق