راقصة الفلامينكو
الجزء الثالث
تابع مسعد كلامه مع صديقه مالك قائلا: عندما انتهى مؤتمر الطيران في مدريد ذو الخمسة أيام، قررت الذهاب إلى سلمنكا، وطلبت من الإدارة أن تعطيني اجازة لمدة أسبوع، وأن يحولوا لي مبلغا من المال سلفة على رواتبي أنا بأمس الحاجة لها.
رفضت الإدارة تحويل السلفة المالية التي طلبتها، ورفضوا الاجازة ايضا بحجة نقص في عدد الموظفين بذلك الأسبوع.
لعنت الوظيفة، ولعنت كل من يبحث عن وظيفة، لأنه بالتأكيد إنسان غبي أو مجنون.
الوظيفة قتل للحرية، وخضوع لمدراء يعطون الأوامر غالبا تافهة، فقط ليذكرونا بأنهم مدراء......
فكرت كثيرا ايجاد طريقة للبقاء في اسبانيا، فكان لا بد من العودة إلى دمشق، ركبت الطائرة وجلست بذات المكان حيث جلسنا أنا وديانا، واشتريت (كروز) دخان من التبغ الاسباني الأسود... وأخذت أدخن السجائر وأحتسي القهوة، وتهطل دموعي كهطول المطر، كانت صورة ديانا لا تفارقني لحظة. أتذكر كل كلمة قالتها، أتذكر كل نظرة منها، ومن المستحيل أن أنسى سحر عينيها مهما طال العمر
وعندما استرجع أحداث تلك الليلة، وخاصة عندما كانت ترقص في نادي الفلامينكو، كانت ترقص لي وحدي، وكأنه لا يوجد غيري في النادي، كانت تهز الأرض تحت قدميها، تعبر برقصتها عن بركان حب يتفجر في أعماقها، ويحدث زلزالا في كامل كيانها... كانت رقصة النار، ثورة جارفة بداخلها، تبدو كينبوع رغبة واشتياق طال فيهما زمن الغربة، فانفجر ليروي السنوات العجاف الطوال...
وعندما أتذكر رسالة الكلمة الواحدة(أحبك) كنت أشعل سيجارتين معا لا سيجارة واحدة، سيجارة أنا أدخنها، والثانية يدخنها خيال ديانا المتجسد امامي وهي تحتسى القهوة...
كانت المضيفات يسألنني ما بي؟ جوابي كان مجرد ابتسامة باهتة
وعندما وصلنا روما... ركبت الطائرة مكرها عائداً إلى سورية، في الجو قررت تغيير مجرى حياتي بالكامل، قررت الاستقالة، قررت بيع بيتي، وقررت العودة إلى اسبانيا بحثاً عن حبي الضائع، بل قل كنزي المفقود، وسوف أجوب الدنيا حتى ألقاها لأنها ملكت خافقي. ونبضات قلبي التي لن تعرف طريقا إلا لها وإليها...
قال مالك متسائلا: وكيف ستتدبر امورك في اسبانيا؟
قلت بداية سأشترى شقة مؤلفة من أربع غرف، هذا كان واردا في اسبانيا بنظام السبعينات، أدفع ما يسمى (إنترادا) اي الدفعة الأولى، وتبقى الشقة لأصحابها طالما باق على الشاري من قيمتها، طبعا ستتزايد الفوائد كلما طالت المدة، سأسدد الاقساط من تأجير غرفتين أو ثلاث من البيت إلى طالبات جامعيات، ومن أجرتهن سوف أسدد القسط ثمن المنزل.
في حياتي الجديدة سوف أبحث عن ذاتي حتى اجد عملا اجعله عشقي، حتى تكون ديانا فخورة بي...
لا أعرف أين ساجدها، لانها تتنقل هي وفرقتها، بدور الأوبرا المنتشرة في أغلب العواصم والمدن الأوروبية.
إذا كانت تحبني كما أنا أحبها، سوف تركض إليّ وتجعلني ملكها كما أنا جعلتها ملكتي، وإذا كنت انا غبت عنها، لا ألومها وسأحتفظ في حبها مدى عمري...
قال مالك: يبدو لي كلامك جدياً يا صديقي...
قلت فعلا وقد قدمت استقالتي من العمل أمس، رغم إن راتبي كبير بالنسبة إلى الرواتب في سورية، لكن ماذا يعني لي الراتب، إذا كنت اخسر عمري وأخسر حريتي وأصبح مامورا لناس غالباً اغبياء.
الموظفون أغبياء لأنهم مستمرون في العمل الوظيفي
العمل الذي يسرق حياتهم، ويسرق حريتهم، ويصبح عقلهم محصورا في روتين العمل، يؤدونه بملل، لقاء بعض المال الذي غالبا لا يكفيهم لنهاية الشهر، ويعيشون بالتقنين حتى يمضي الوقت ويقبضون رواتبهم ثانية، يصرفونه ويعودون ينتظرون القبض مرة ثانية، وهكذا تمر الشهور وينتهي العمر، ويموتون خلف تلك الطاولات ليأتي خلفهم آخرون وينتهون مثل سابقيهنم..
بدأت أهيء نفسي إلى ملاقاة الحب، إلى كنزي الضائع...آه كم سأكون سعيداً عندما أجد ديانا... كم سيسعدني لقاؤها، هذه الفنانة هي هدية ربي لي، لأنني احبه ولم ازعله يوما...ولن أخذله طالما أنا على قيد الحياة.
قال مالك: كم أحسدك على هذا الحب، أنا تزوجت هكذا، أهلي هم ارشدوني إلى بنت الحلال المناسبة، وهم طلبوها لي، ودار العرس وتزوجنا وانجبنا، ونعيش اليوم في تقنين دائم، الحياة غالية، والراتب كما تعرف اسمه معاش، وليته يكفي أن نعيش ناهيك عن مصاريف المدارس، ومساعدة الأهل، ومصاريف جديدة تخلق لنا كل يوم، لم نكن نحسب لها حساباً... والعمر يمر، وهمنا كيف سنمضي شهرنا دون أن نحتاج غيرنا، وماذا نفعل، لقد تعودنا على الصبر...ولو لم أكم مرتبطاً هنا من أجل عائلتي، لكنت قدمت استقالتي وهاجرت معك، وهل سأعيش مرتين، وسأبحث عن عمل أجعله حلم حياتي، أشعر بأنني أنا الذي أصنع حلمي وليس هو الذي يصنعني.
كاتب القصة: عبده داود
إلى اللقاء في الجزء الرابع