يوميات مضيفة طيران
المحبة أولاً
الجزء 15
عاتبت سحر لويس بانفعال وقالت: الأفضل أن ننفصل الآن أفضل من لاحقاً، الكلام الذي سمعته منك في المطار. يجعلني مقتنعة بأننا لن نلتقي. أنت من طبقة غنية برجوازية، ونحن من طبقة فقيرة، نعيش على قدر خبزنا اليومي...وأنتم ما شاء الله أموال بلا حدود.
من ناحية ثانية، أنا لا أقدر أن أكون المرأة الثانية في حياتك، أنت جعلتني وسيلة نقل لروح المرحومة...أدخلت روح جورجيت بجسدي، وجعلتني جورجيت.
قال لويس: ما هذا الذي اسمعه؟ أولاً أنا لست من طبقة برجوازية، أنا من طبقة فقيرة، كنت أعمل صبياُ عند أحد التجار، وقررت أن أكون تاجرا مثله. وفتحت عيناي على كل شاردة وواردة في العمل، ويوماً بعد يوم اكتشفت سر المصلحة، تركته وحملت حقيبة، وصرت اشتري من تاجر، وأبيع إلى تاجر، وجمعت اموالاً كافية ساعدتني على الشراء مباشرة من الصين، وبعدها اشتريت هذا القصر والمزرعة بسعر مناسب من ناس باعوا وهاجروا إلى أمريكا...
المزرعة هي التي أغنتني. كانت أرض شبه ميتة، لكن بالجهد والتعب الحقيقي، أعدنا لها الحياة، وهي اليوم تدرعلينا الكثير...
أما الذي قصدته بالمطار، لا الاستخفاف، إنما كنت ناويا خطوبة بأرقى فنادق سورية، لكن لا يهمك سنعوض فرحتنا الكبيرة في حفلة زواجنا.
لكن لم استوعب كيف تحملين روح جورجيت، هذه أفكار فلسفية غريبة جدا، لم اسمع بها سابقا. هل أنت تغارين من امرأة ميته؟ جورجيت كانت كل حياتي، كيف انساها؟ لا لن انساها، ولن أقدر أن انساها، هي أم اولادي الأربعة، هي كانت كل دنيتي. ولم أفكر يوماً أن افتح قلبي إلى إنسانة ثانية كانت من كانت. لأنني كنت على قناعة تامة بأنني لن أجد مثلها ابداً، حتى التقيتك عرفت حينها بأنني تعرفت على قلب طاهر رائع ملائكي، يشبه قلب المرحومة، هذا ما جعلني أفتح أبواب قلبي من جديد لأنك ملاك دخل حياتي.
هذا الذي تشعرين به بالازدواجية بين جسدك وروحها... هذا لا افهمه لكل واحدة منكما خصوصيتها. بصراحة أنا لن أنساها مهما طال الزمان، أليست هي أم جورج وأم سمر وحنان وهند... يا سحر يا حبيبتي...
عندما تعرفت عليك وجدت فيك جمال الروح وجمال الجسد، وأحببتك بالفعل، أنا أحبك يا سحر...نعم أحبك. الآن دعينا من الأوهام، ولنعش حبنا ومستقبلنا.
ساعديني أجد معلمة إلى جورج. لقد وجدت، مربيتان جديدتان تقومان بخدمة الأولاد. أما أنت لن أدعك تتركين وظيفتك في الطيران لأنني أعرف محبتك لعملك...
في الحقيقة سحر أقنعها لويس بأن تتناسى ما تفكر فيه...
وأصبحت تحارب أفكارها بخصوص جورجيت، وأقنعت ذاتها بقدرها، وتناست اوجاعها...
كان لويس يمضي أوقاته مع عمه أبو سحر بطاولة الزهر، وكم كان أبو سحر يعصب عندما يخسر، لذلك كان لويس يحاول ألا يربح حتى لا ينزعج عمه من الخسارة...
سأل لويس هدى بان ترشده إلى معلمة من أجل أولاده وخاصة ابنه جورج في الصف الثاني الابتدائي، وواجباته المدرسية، كثيرة والمعلمات يفرضن على التلامذة أحمالاً مدرسية ثقيلة...
قالت هدى. من الأنسب أن أكون أنا معلمة أولادك حتى نكسب ودهم، وهكذا تأتي معي اختي كلما سنحت لها الفرصة، وشيئاً فشيئاً يتعودون على وجودها في البيت...
قال لويس: ربنا يجزيك الخير يا هدى...فعلاً انت عظيمة، حكيمة، ورائعة... وتستحقين لقب أستاذة مربية بأمتياز
جاءت هدى في يومها الأول لزيارة الأولاد. استقبلها لويس وعرّف أولاده عليها قائلاً: هدى جلبت العابها معها حتى تلعبوا أنتم معها.
طبعا (لويس اشترى الألعاب مسبقاً)...لم يكترث الأولاد بهدى لكنهم أخذوا ألعابها... وتابعوا اللعب...
جلست هدى على الموكيت السميك الذي يغطي أرض غرفة الأولاد مثلما هم جالسون، وأخذت تراقب العابهم الكثيرة، منها ألعاب الكترونية، ومنها العاب تركيبية، وشخوص وروبوتات، وقطارات، وغيرها الكثير...وبعدما تعرفت هدى على كافة الألعاب، أخذت تستبعد خفية الألعاب غير المناسبة لأعمارهم...
أحيانا كانت سحر تأتي مع اختها، لكن الأولاد لم يكترثوا بها.
أمضت هدى الأسابيع الأولى، وهي تلعب مع الأولاد، ولم تأتي على أي تعليم، ولم تفرض عليهم أي رأي...وكانت تحكي لهم الحكايات والقصص، وبعدما أحست بأن الأولاد باتوا يحبونها، وباتوا ينتظرون حضورها، وصاروا يستقبلونها بلهفة ويركضون عليها ويقبلونها عندما تصل...
احضرت لهم لوحاً كبيراً يشبه اللوح المدرسي وقالت لهم اليوم، سنلعب لعبة جديدة اسمها المدرسة...
وهنا بدأت هدى تعلم الأولاد، وتركز على الاهتمام بالولد الأكبر جورج... مضت فترة قصيرة أنس جورج معلمته تماماً وأحبها، وصار يكتب وظائفه بهمة ومحبة للتعلم، هدى استخدمت الطرق المقنعة التوضيحية التي توصل فيها المعلومات إلى ذهن التلاميذ، طبعاً هدى اختصاصها الجامعي تربية وعلم نفس ويتلخص اسلوبها التعليمي أن يفهم التلميذ الدروس لا أن يحفظها... لأن الفهم يبقى في الذهن والذاكرة، بينما الحفظ ، بدون الفهم الكافي ينساه الطالب وتتلاشى المعلومات من ذهنه...
الذي أدهش نظر لويس هو الجلاء الشهري لابنه جورج، الذي يشعر بتحسن ابنه الواضح، كان الولد من الكسلانين، واليوم أضحى من المجتهدين...
قدم لويس مبلغاً كبيراً إلى هدى أكبر بكثير من المبلغ المتوقع كمكافأة لها على ما تبذله من جهد، رفضت هدى المبلغ بإصرار. وقالت: هؤلاء هم أولاد اختي، مستحيل أن اتقاضى منكم أتعاباً أو ما شابه...
مديرة مدرسة جورج، كتبت رسالة إلى السيد لويس عواد ترجوه أن يأتي إلى المدرسة ويحضر معه معلمة جورج بالمنزل...
سألت المديرة هدى: عن الطرق التي تتبعها مع جورج حتى انتقل من شعبة الكسإلى، إلى شعبة المجتهدين؟
قالت هدى أنا لا اجعل التلميذ يحفظ الدروس، أو يكتب الوظائف الطويلة والكثيرة...
أنا اجعله يفهم ما الذي يدرسه، ولماذا يدرسه، وعلاقة الذي يدرسه في المدرسة مع الحياة الواقعية.
المدرسة يجب أن تكون البيئة الحاضنة التي تربط التلميذ بالواقع الحياتي، ويقتنع التلميذ بأن الذي يتعلمه في المدرسة هو لاستخدامه في مجتمعه.
قالت المديرة فعلا هذا ما لاحظناه من اسئلة غير معتادة، جورج يحب أن يفهم ماذا يدور خلف الكلمات، لذلك اردت أن أعرف كيف تعلمينه... وكيف حققت له هذا الانتقال النوعي...
وما هو اسلوبك التعليمي؟
قالت هدى: المحبة أولاً. الاهتمام بصداقة الطلبة قبل تعليمهم، أن نحبهم حتى يفتحون لنا قلوبهم، نشاركهم اسرارهم الخاصة، وعندما التلميذ يحب استاذه يفتح له قلبه وذهنه ويستوعب ماذا يدرس ولماذا يدرس، وعندها لا حاجة للكتاب، ولا حتى للفحص، لأن المعلومات صارت في ذهن التلميذ ولن ينساها لأنها صارت من مكتسباته ومخزون ذاكرته...
قالت المديرة، اود أن أسألك بصراحة عن المدرسة التي تعلمين فيها هل نجحت طريقة تعليمك هذه مع تلامذتك...
قالت هدى: سؤال ذكي، والجواب يكمن في مراجعة علامات طلاب صفي في الشهادة الإعدادية الرسمية، وهي تخبركم الحقيقة...
شعبة من الطلبة كانوا يكرهون سجن المدرسة، كانوا يستقبلوني عندما أدخل صفهم بحركات سخيفة حتى أهرب، وبعدما شعروا بمحبتي لهم، أحبوني، واحبوا المدرسة، وتحولوا إلى شعبة متفوقة.
كاتب الرواية: عبده داود
إلى اللقاء في الحلقة 16
الراغبون قراءة الحلقات السابقة يجدونها في:
(مجموعة يوميات مضيفة طائرة)