( بوّابة قيصر)
عندما استدرك قُرْب نفاذ الطعام من القبو الداكن، تحوّل لبندول حائر.
مثل الهرّ الذي يلاحق ذيله، أخذ يدور.
أغاظ هذا المنظر زوجته، الواضعة يديها على
جريدة، فصرخت به :
" كفاك لَفاً ودوراناً هكذا! إثبت في مكانك. لماذا كل شيء ثابت إلا أنت؟ ".
أومأ رأسه علامة الطاعة، وتسمّر في مكانه.
حملق في الأرض، رمق السقف الرطب، ثم المنضدة الخشبية العتيقة، ثم زوجته، ثم ربطة الخبز.
" فعلاً. كل شيءٍ ثابتٍ إلا أنا " ، قالها بحسرةٍ.
وكيف له أن يدرك، من هذا القبوِ الداكن ، أن لا شيءَ في الكون ثابت؟ وأن الأرضَ تدور حول نفسها وحول الشمس باستمرار، وأن المجرّات تبتعد بسرعة متزايدة عن بعضها بعضاً، وأن الذرّات، التي يتكوّن منها كل شيء، هي دائمة الحركة ؟
لكن ما له للإدراك الآن؟
راح في صمتٍ يستشعر.
ومن خوفه من زوجته، لم يكن شيءٌ يهتزُّ فيه إلا بدنه.
يريد حلاً لمشكلة نفاذ الطعام. لا بد مِن خطة إقتصادية طارئة وحكيمة.
حسبها في رأسه :
" إذا بقينا نأكل على هذه الوتيرة، التي نأكل بها كل يوم، فإن الزبدة، التي في العلبة البلاستيكية
المثقوبة، ستنضب بغضون ثلاثةِ أيام.
وإن ربطة الخبز، بغلافها الممزّق المنتوف، ستتلاشى بعد يومين. هذا إذا ما التهمها الهواء قبل ذلك.
أما عن السكّر والطحين، فحدِّث ولا حرج.
لم يتبقّ منهما إلا مقدار كبّاية قهوة. عربية لا أجنبية.
يعني هذا أن الحجم صغيراً جداً.
نعم. نستطيع العيش من دون طعامٍ لأشهر، لكن الجوع كافر".
سمعته زوجته، الواضعة يديها على الجريدة ، فصرخت:
" ألم تكن تعرف أن الطعام ينضب؟ ألم تكن تدرك أننا نعيش في بهو محاصر منذ مدة؟ ألم ترى أن بوّابته الحديدية مقفلة من الداخل؟".
حملق فيها، ودون حراكٍ، همس بصوتٍ ركيك :
" البوّابة مقفلة من الخارج".
من شدّة حنقها عليه، انتصبت جدّولتاها
في الهواء – أو ما تبقّى منه - وهدرت :
" لا. البوابة مقفلةٌ من الداخل! ألم تشاهد القفل الذي أكبر من رأسِك ؟ ألم ترى الجنزير الذي يا ليتك ضربك صاحب القبو به؟ قم أيها الحذق. بدل أن تعدّ ما تبقّى لنا من طعام، سر نحو البوّابة وافتحها. أنا متأكدّة أن هناك طعاماً كثيراً في الخارج. المفتاح هنا في القبو طالما أنه البوابة مقفلة من الداخل".
من دون هزةِ رأسه يجيب :
- " قلتُ لك البوّابة مقفلة بقرار من الخارج لا من الداخل، ولا أستطيع أنا، هذا المخلوق الضعيف ، أن أفتحها ".
- "وماذا إذن؟ أبوابة قيصر هذه لتخاف أن تفتحها؟ أنموت هنا في الداخل؟ أنسجن أنفسنا في تابوت ونصلّي لله أن يأتي وينقذنا؟ أو أن يعطف أحدٌ علينا؟ أهذا هو الحل في رأيك؟ الإنتحار؟".
يدا زوجته ما زالتا فوق الجريدة، تلامسان الرأس
المسطّح ثنائي البعد ، لمسؤول كبيرِ في البيت الأبيض، بأسنانه الهوليوودية يصرِّح :
"سنعمل دوماً من أجل حقوق الإنسان".
ثقبٌ صغير في الجريدة المجعلكة، في سنّي حرف الحاء بالتحديد، جعل كلمة "حقوق" تبدو وكأنها "عقوق".
لم ينتبه، لا هو ولا زوجته للأمر.
وكيف لهما أن ينتبها، وهما الخائفان الساكنان في قبو، أن يعرفا الفرق بين "حقوق" و "عقوق"؟
"عند البطون تضيع العقول"، يقول المثل ،
وبطنا الزوجِ والزوجة لا هَمْ لهما الآن إلا الطعام.
" ألدينا جرائد أخرى هنا ؟"، يسأل زوجته.
- " لدينا جرائد نعم. لكن معظمها ممزّقٌ إلى وريقات صغيرة".
تومىء له بالتحرّك.
يتحرّك. يصول القبو ذهاباً إياباً باحثاً عن واحدة.
يرى قطعة ورقية صغيرة أمامه.
يقترب منها. هي قطعة من جريدة بالتأكيد.
يقلبها بيديه ليحدّد حجمها، فتشبُّ أمامه العبارة
التالية: " بنك دولي" ملطّخةٌ ببراز.
يتقزّز هو دون أن يدرك سبب التقزّز.
أهو البراز؟ أو البنك الدولي؟ .
صوتُ زوجته يزلزل من بعيد : " يا غبي بقرنين! قم! قم إبحث عن المفتاح، بدل أن نموت جائعين هنا".
يتردّد.
تصرخ به بصوتٍ أعلى.
يتوجّه بسرعة نحو البوّابة. ثم نحو الجدار الأمامي.
ثم نحو الجدار الخلفي.
ثم الجدار الذي وراء المنضدة الخشبية. ثم الجدار المواجه للمنضة الخشبية وراء خزانة صغيرة.
" وجدته!"، تصرخ بأعلى صوتها.
- " وجدتِ ماذا؟"، يصرخُ
- " أنظر وترى"
يستدير هو وإذ بثقب يمكّنهما من النفاذ إلى الجهو المقابلة.
يتوجهان نحو الثقب بفرحٍ شديد، وما أن يطل رأسهما من الجهة الثانية حتى تمتد يدٌ عملاقة كبيرة، تحمل بيدها مبيداً للحشرات، وترشّهم به .
يرتجفان وينقلبان على ظهرهما دون حركة.
وتصرخُ اليدُ: " .أخيراً أمنّتُ الطعام لهرنا المريض . وجبةُ صرصورَين أفضل من الجوع القاتل. أهكذا أو لا يا عبلة؟ ".
ويصرخ صوتٌ أنثوي من مكان قريب : " بدل أن تنشغل بالهر، قم يا عنتر زمانك وفك جوعنا نحن. قُم وابحث عن مفتاح البوابة. هي مقفلة من الداخل ".
ويجيب عنتر، المحدّق، مع نشوةِ الفرح، بالصرصورين المطروحين أرضا : " لا. بل من الخارج! ".
( بقلم ربيع دهام)